حوارات حول الأفكار…(79)
سودان الثورة.. هل من عقلاء..؟
(4)
الوضع في السودان الآن وصل إلى درجة من التعقيد و الخطورة لايمكن وصفها، و هو إلي حد كبير أشبه بكرات النار الملتهبة و المتدحرجة من جميع الإتجاهات للقضاء على الجميع و الجميع مشغول بقضايا و مسائل لا أقول فقط هامشية ولكن ذات دلالات تؤكد ضعف و توهان في القدرة الفكرية فيما يتعلق بترتيب الأولويات على المستوى الوطني و الكل منغمس في صراعات مصنوعة و متوهمة تحت لافتات طائفية وحزبية و ايدلوجية و جهوية و عرقية و إثنية و مهنية ظلت تهدد السلام و السلم الإجتماعي بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث و النخب السياسية سقف إدراكها لقضية السلام هو السلام السياسي و العسكري المرتبط بالعمل المسلح و رغم إدراكنا لأهمية السلام السياسي و العسكري إلا أن ذلك السلام يظل يمثل جزئية صغيرة جداً من المعنى الشامل و الواسع للمصطلح و المرتبط ببناء الدولة و الذي يشكل منصة إنطلاق مركزية لبناء الثقة المجتمعية في المشاريع و المطلوبات الأساسية و الإستراتيجية في عملية البناء مثل العدل و التعليم و التنمية وغيرها من مشاريع الإستقرار الذي تنادي به الشعوب في ثوراتها و قد نادي بها السودانيون في أكتوبر و أبريل و غيرها من المبادرات الشعبية و قد جددت و عبرت جماهير الشعب السوداني عن تلك المطلوبات صراحة من خلال شعاراتها الأساسية خلال ثور ديسمبر المجيدة ولذلك فإذا وضعنا معيارا فلسفيا لقضية السلام المجتمعي و قسنا عليه ممارسات كثير من الأحزاب و المكونات السياسية و الإجتماعية بل و الحكومة نفسها نجد أن كثير من تلك الممارسات تتناقض بوعي كامل احيانا و بدون وعي في أحايين أخرى مع فلسفة و مفهوم السلام نفسه بل و تدخل احيانا في باب الجرائم التي تهدد الأمن و السلم المجتمعي في مرتكزاته الأساسية و تلك واحدة من أكبر التحديات التي تحتاج إلى مقاربات فكرية و إعادة تصنيف و هيكلة توضح بجلاء من هو مع مبادئ الثورة و التغيير قولا و فعلا و من هو مع تلك المبادئ قولا لا فعلاً و من هو ضد الثورة قولا و فعلا و توضح بجلاء أيضا درجات الوعي من عدمه في التماهي مع قضايا التوافق و التواثق الوطني الأساسية قولا و فعلاً.
إن عملية البناء الوطني في ظل الظروف الراهنة أصبحت على المحك و أكثر ما تحتاج إلى عقلاء و حكماء المجتمع السوداني و تحتاج أيضا إلي مبادرات جريئة و مبتكرة و جراحات عميقة في نقد الذات و شجاعة نادرة في الإعتراف بالأخطاء تتجاوز الصعاب و تتسامي علي الحظوظ الشخصية و الحزبية و الأيدلوجية لصالح الكليات الوطنية التي ظلت من جهة على ذيل الإهتمامات في الممارسة السياسية منذ الإستقلال و ظلت أيضا مسار خلاف أدى لتكريس حالة عدم وجود رؤية وطنية مشتركة لتلك الكليات من جهة أخرى مثل إهمال ماتسميه النخب السياسية بالمؤتمر الدستوري وغيره من المطلوبات الوطنية الأخرى و الانكأ و الأمر ظلت الأحزاب في خطابها السياسي تعبر عن الوصول لتلك المطلوبات الوطنية إصطلاحا بالتنازلات و مصطلح تنازل لغة و إصطلاحا يعني النزول من الأعلى إلى الأسفل و بهذا الفهم يعنى النزول من الأبراج العاجية الحزبية و الأيدلوجية لصالح القضايا الوطنية و لذك فهو إما انه يعبر عن خلل مفاهيمي في الوعي و الإدراك للعلاقة ما بين الوطن و الحزب و إما انه يعبر عن أجندة خفية و مؤامرة تمارسها تلك الأحزاب و الايدلوجايات على مصالح الوطن العليا و شعبه الصابر و يوضح ذلك بجلاء لا لبس فيه أن إستخدام مصطلح تنازل عند هذه الأحزاب يعني أن الأعلى كعبا عندهم هو الحزب و الأيدلوجيا و الإنتماء الفكري و الأسفل هو الوطن و تلك صورة مقلوبة يمكن أن تُقرأ من زاوية بالسقوط الفكري والجهل السياسي المركب و يمكن أن تقرأ أيضا من زاوية اخري بالسقوط الأخلاقي و الخيانة الوطنية العظمي و في الحالتين يتم الإستمتاع بتدمير مقدرات الوطن و إذلال الناس و عدم الإحساس بهم فيما يكابدونه و يعانونه من أجل الحصول مثل غيرهم من الشعوب على حقوقهم الأساسية في الحياة و العيش الكريم .
إن بناء تيار توافقي وطني جديد يمسك بزمام المبادرة في قيادة العمل السياسي بالسودان و يعود بتلك الأحزاب و المكونات السياسية إلى جادة الطريق أصبح أمراً ملحاً و غاية في الاهمية و لما كانت الأحزاب و المكونات السياسية تصر على إغراق نفسها في مراراتها و تصفية حساباتها و في صراعاتها الطائفية و الأيدلوجية و غيرها من التفاصيل الهامشية المدمرة فإن الواجب الوطني يقتضي أن ينهض بهذه المهمة نفر كريم من عقلاء و حكماء المجتمع السوداني و ما أكثرهم وسط الإدارات الأهلية و الطرق الصوفية و المؤسسات التعليمية و العدلية و الإعلامية و الفكرية و النقابية و المراكز البحثية و غيرها من المنصات الوطنية التوافقية و الغير منحازة إلا للوطن و هذا بالطبع لا يعني عزل المكونات السياسية و الأيدلوجية و نعلم و نؤكد أن دورها السياسي لا يمكن إستبداله و نعلم أن بهذه المكونات الحزبية الكثير من العقلاء و الشرفاء الوطنيين المؤمنين بالحرية و الديمقراطية و الشراكة السياسية قولا و فعلا ممن نطمع في دعمهم لصناعة تيار وطني توافقي جديد و قد ظلت مرارات الواقع الماثل تفرض عليهم قيوداوحواجزاً تحول بينهم و التعبير عن اشواقهم و أمنياتهم بسودان واحد حر يسع الجميع و يبنيه الجميع.
… نواصل
.
د حيدر معتصم
سبتمبر 2021