السودان.. هل حانت ساعة الحسم؟
الوليد مصطفى
يبدو أنّ الساعات القادمة ستكون حاسمة في السودان مع اتساع هوة الخلاف داخل الائتلاف الحاكم في السودان بين شقّيه المدني والعسكري، وتفاقم الأزمة داخل المكوّن المدني “قوى إعلان الحرية والتغيير” التي انقسمت على نفسها.
فمِن خلال تجارب الماضي المريرة، يظهر بجلاء أنّ حظّ السودانيين في التحوّل السلس نحو الديمقراطية “عاثر”، فمنذ الاستقلال عن بريطانيا في العام 1956 نُكبت البلاد بسلسلة من الانقلابات العسكرية “الفاشلة والناجحة” حتى بلغ مجموع سنوات حكم العسكر 52 عاماً من جملة 65 عاماً، منذ أن رفرف علم السودان الحرّ المستقل على سارية القصر الجمهوري في الخرطوم. كان أقصر هذه الانقلابات عمراً انقلاب الرائد هاشم العطا الذي استمرّ ثلاثة أيام خلال فترة حكم العقيد جعفر النّميري الذي استمرّ 16 عاماً، وأطولها عمراً انقلاب العميد عمر حسن أحمد البشير الذي استمرّ 30 عاماً.
انقلاب ببادرة مدنية
ومِن سخريات القدر أنّ “شهادة ميلاد” أوّل حُكم عسكري في السودان “صاغها مدنيون”، ففي 17 نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1958، أي بعد ما يزيد على عامين من استقلال البلاد، عرض رئيس الوزراء آنذاك عبد الله بك خليل السلطة على قائد الجيش الفريق إبراهيم عبود، وسلّمه إياها بعد أن أصابه اليأس مِن الخلافات الحزبية.
ولم تمضِ سوى سويعات حتى نوّهت الإذاعة الوطنية في أم درمان إلى بيان لقائد الجيش إبراهيم عبود، فتحدث فيه عن مبررات ما أسماها “الخطة السليمة المباركة” التي ستكون نقطة تحوّل في البلاد، فذهب في الحديث عن سوء الأحوال الأمنية وما آلت إليه البلاد من فوضى وفساد وعدم استقرار للفرد والمجموعة، ونوّه إلى أنّ هذه الفوضى امتدت إلى أجهزة الدولة والمرافق العامة، وكل هذا يعود إلى ما تُعانيه البلاد من أزمات سياسية قائمة بين الأحزاب جميعها، كلٌّ يريد الكسب لنفسه بشتى الطرق والأساليب المشروعة منها وغير المشروعة، وباستخدام بعض الصحف والاتصال بالسفارات الأجنبية، وكلّ ذلك ليس حبّاً في إصلاح السودان وحفظه واستقلاله وتقدمه، ولا رغبة في صلاح الشعب لقوته الضروري، لكنّه جرياً شديداً وراء كراسي الحكم والنفوذ والسيطرة على موارد الدولة وإمكانياتها.
“أربعة طويلة”.. عودة إلى بدء
أمّا أزمة السودان الراهنة والممتدة منذ ما يزيد على عامين ونيّف، يجسّدها مصطلح “أربعة طويلة”، والذي وجد طريقه مؤخراً إلى “قاموس السياسة السودانية”، وبات يُستخدم في العديد من وسائل الإعلام المحلية ومنصّات التواصل الاجتماعي، للإشارة إلى أربعة أحزاب سطت على مقاليد الحكم الآن في البلاد، وهي حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة علي الريح الشيخ السنهوري، وحزب المؤتمر السوداني بقيادة عمر الدقير، وجناح من حزب الأمة القومي الذي تقوده وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي، والتجمّع الاتحادي وهو مجموعة منشقّة عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، أما الحزب الشيوعي الذي كان جزءاً من الائتلاف الحاكم، فقد قرر الانسحاب باكراً بعد أن مَكّن لعناصره في العديد من الوظائف داخل مؤسسات الحكومة.
ونظراً لهشاسة الأوضاع الأمنية في البلاد، وتردّي الأحوال المعيشية بعد التدهور الاقتصادي والتضخّم، مع ازدياد معدلات البطالة، تفشّت ظاهرة السرقة والخطف، فظهرت عصابات تستخدم الدراجات النارية في عمليات السّلب والنّهب ولا سيّما الهواتف النقّالة، وسُمّيت بعصابات “تسعة طويلة”، ومردّ ذلك إلى أنّ أفراد هذه العصابات يدورون حول الضحية ثم يفرّون بالغنيمة على نحو يشبه الرقم (9) باللغتين العربية والانجليزية. وهو الأمر الذي تقوم به أحزاب “أربعة طويلة” التي تسيطر على مقاليد الحكم في السودان.
وثيقة من دون تنفيذ
استمرأت الأحزاب الأربعة حالة الفراغ الدستوري جرّاء عدم تنفيذ معظم بنود الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية، والتي وقّع عليها طرفا الحكم بشقّيه العسكري والمدني في 17 أغسطس/آب 2019، فبطشت بخصومها ومكّنت أتباعها من مفاصل الدولة.
فقد نصّت الوثيقة الدستورية على إنشاء مجلس تشريعي يسنّ القوانين والتشريعات ويراقب مجلس الوزراء، بل ويسحب الثقة منه ومن رئيس مجلس الوزراء نفسه، كما نصّت على إنشاء مجلس أعلى للقضاء يحلّ محلّ المفوضية القومية للقضاء، ونصّت أيضاً على إنشاء المحكمة الدستورية، وإنشاء عدد من المفوضيات من بينها: مفوضية الانتخابات ومفوضية مكافحة الفساد، لكنّ بنود هذه الوثيقة ظلّت من دون تنفيذ.
ولربما عمداً حتى تتمكن الأحزاب الأربعة من إحكام سيطرتها على حكم البلاد منفردة، وتطبيق أجندة المشروع الغربي في السودان، وإقصاء من يخالفها.
فقد تحوّلت لجنة إزالة التمكين التي تتحكّم فيها أحزاب اليسار، وخاصة حزب البعث العربي، إلى أداة للانتقام، فصادرت أموال وأصول عدد كبير من الشركات والأفراد، وأنهت خدمة عشرات الآلاف من موظفي الدولة، من بينهم المعلمون والقضاة ووكلاء النيابات والمهندسون في مختلف المجالات، وأساتذة الجامعات بحجة ولائهم للنظام السابق، مما أدى إلى تدهور كبير في الخدمة المدنية وفي كثير من المؤسسات الخدمية في قطاعات، مثل: الكهرباء والصحة والتعليم.
ولكن هذه اللجنة التي تجد السند والدعم من رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، أصيبت بنكسة وفقدت كثيراً مِن بريقها بعد رفض السلطة القضائية تنفيذ قرارتها، مثل فصل عدد من القضاة، وأخيراً أصدرت المحكمة العليا قرارات بإبطال عدد من قرارات لجنة إزالة التمكين الخاصة بفصل عدد من العاملين في السلك القضائي والسفراء بوزارة الخارجية، وموظفي بنك السودان المركزي وغيرهم.
ضوء أخضر
الآن، وبعد مرور ما يزيد على أسبوع من دعوة رئيس المجلس السيادي الفريق البرهان لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك بحلّ الحكومة الحالية، وهو الأمر الذي “تحاشاه” حمدوك، فإنّ الاحتمال الأرجح هو أن يستغلّ البرهان موجة الاحتجاجات والاعتصام الذي تنظّمه قوى إعلان الحرية والتغيير (مجموعة العودة لمنصة التأسيس)، ضد المجموعة الحاكمة من قوى الحرية والتغيير، ذلك الحراك الذي بدأ بتظاهرات 16 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ليتحوّل إلى اعتصام ضخم أمام القصر الجمهوري، بات شبيهاً بذلك الاعتصام الذي أدى إلى الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير، وربما لأنّ مبررات تنفيذ “الخطة السليمة المباركة” التي وردت في بيان الفريق إبراهيم عبود آنفة الذكر ما تزال ماثلة للعيان، فربما يُقدِم الفريق البرهان على حلّ حكومة رئيس الوزراء حمدوك والإعلان عن انتخابات تُجرى في نهاية ما تبقى من فترة الحكومة الانتقالية، مستقوياً بالحاضنة المدنية الجديدة، وبما يمكن تفسيره بالضوء الأخضر من الولايات المتحدة وروسيا بأنّ ما يجري في السودان “شأن داخلي”.