عبدالرحمن عبدالله سيد احمد يكتب: نظرية الخيارات “Game Theory” والمشهد السياسي السوداني
1. في عشرينيات القرن الماضي، حاول عالم الرياضيات الامريكي Harold Hotelling استخدام بعض النماذج الرياضية لحل بعض المشاكل التي تواجه الشركات. تم تطوير هذه النماذج فيما بعد، واصبحت جزءا من ال Game Theory وهي احدى مباحث دراسات ال Business Strategy.
2. احدى النماذج التي حاول Hotelling دراستها تتعلق بما يعرف “بالمنافسة الاحتكارية”. افترض Hotelling ان بائعين للايسكريم وجدا احتفالا في احدى الشواطئ، فهرعا الى المكان بغية بيع اكبر كمية ممكنة من الايسكريم. لكن طول الشاطئ يتجاوز الاربع اميال، فأخذ البائعان يبحثان عن الموقع الامثل الذي يمكنهم من الزبائن. وجد Hitelling ان المنطق الرياضي يقول ان يتقاسم البائعان مسافة الشاطئ، فينصب احدهما عربته علىً بعد ميل من بداية الشاطئ، ويستقر الاخر على بعد ميل من نهاية الشاطيء (وتكون المسافة بينهما في حدود ال ٢ ميل، تقريبًا).
3. لكن Hitelling نبه الى ان هذا المنطق الرياضي لم يراع تركيز الزبائن، وافترض انهم منتشرون على طول الساحل بنفس الكثافة، وهذا امر نظري. ففي اغلب الاحيان تكون الكثافة في بداية الشاطيء (عند المدخل) اكثر منها عند نهاية الشاطيء. هذا الخلل في التوزيع سيمكن البائع الاقرب من البوابة للاستحواذ علىً النسبة الاكبر من المبيعات.
4. لمعالجة هذه المعضلة، اعاد Hotelling التفكير ووجد ان افضل سيناريو هو ان ينصب البائعان بضاعتهما متجاورين عند منتصف الشاطيء. هذا السيناريو يلقي على الزبون مشقة الوصول الى نقطة البيع، ويوفر قسمة عادلة بين البائعين، بشرط التزامهما التام بال Silent Gentlemen Agreement
5. لكن Hotelling استدرك قائلا ان دخول بائع آخر الى حلبة المنافسة من شأنه ان يفسد التوازن محدثا ما يعرف بال un-equilibrium state. حالة عدم الاتزان هذه قد تحد من التزام الاطراف بالالتزام الاخلاقي وتدفعهم للبحث عن طرق اخرى لزيادة المبيعات.
6. ربما ظن البعض ان النموذج الذي توصل اليه Hotelling بتركيز الخدمات في الوسط جاء لخدمة مقدمي الخدمات وليس الجمهور. لكن الفائدة التي يجنيها الجمهور تأتي من جهة ان التنافس بين مقدمي الخدمات المتجاورين سيؤدي حتما الى تحسين الاداء وربما خفض الاسعار. هذا النموذج اصبح كثير التكرار في عالم اليوم، فنجد الصاغة يفضلون فتح محلاتهم في سوق الذهب، لانه السوق الذي يجتذب المشترين الحقيقيين وليس الزبائن الذين يأتون للفرجة eye shopper.
7. الان دعونا نسقط نموذج Hotelling في عالم السياسة. لقد وجد ال founding fathers في امريكا ان وجود حزبين متنافسين يقفان في منطقة متوسطة (ليس اقصى اليمين، ولا اقصى اليسار) من شأنه ان يجعل المنافسة محتدمة وفرص الفوز متساوية. وهذا ما يفسر ان البرنامج الانتخابي للجمهوريين والديموقراطيين ليس فيه اختلافا بينا. كما ان نصيبهما من الاستحواذ علىً السلطة يكاد ان يكون منصفا.
8. يزعم كاتب المقال ان الوثيقة الدستورية التي وقعت بين المدنيين والعسكريين في السودان في اعقاب سقوط نظام البشير كان يمكن ان يؤدي الى تطبيق جزئي لنموذج Hotelling، لكن دخول طرف ثالث في المعادلة (الحركات المسلحة، والتي دخلت كشريك في السلطة عقب اتفاق سلام جوبا) عجل حالة عدم التوازن التي اشار اليها Hotelling. بيد ان عدم الانسجام داخل المكونين الاساسيين: العسكري (الجيش مقابل قوات حميدتي) والمدني (الاحزاب المتنافسة داخل قوى الحرية والتغيير) كان سيؤدي حتما الى هذه الحالة عاجلًا ام آجل.
9. اختم بالقول ان استخدام ادوات ال game theory في التنبؤ بمستقبل الحالة السودانية يشير بوضوح الى ان الدعم السريع هو الحلقة الاضعف في المعادلة unsustainable entity. فاستئثار آل دقوا بالسلطة والثروة سيفتح عليهم ابواب الغيرة والتنافس، نفس الابواب التي فتحت على البرامكة فوأدت عزهم وازالت ملكهم.
ليت هندا انجزتها ما تعد…..
وشفت انفسنا مما نجد……
واستبدت مرة واحدة……..
انما العاجز من لا يستبد……
هيوستن، تكساس
ديسمبر ٢٠٢١
aehaaa@me.com