غازي صلاح الدين يكتب : عبد الرسول النور إسماعيل…آخر الحكماء

الزرقاء ميديا

عبد الرسول النور إسماعيل، أعرابي من بادية كردفان عرفناه وأحببناه منذ أن التقينا أول مرة في جامعة الخرطوم بداية السبعينات من القرن الماضي.عندما انتقل عبد الرسول من البادية إلى البندر، أحس ما أحس به نزار حينما زار أمه بعد اغتراب وتقلب في دروب الحياة، لسنوات ملأت جوانحه بالحنين والشجن:

مضى عامان يا أمي على الولد الذي أبحر
يحمل في حقائبه ربيع بلاده الأخضر

كذلك عبد الرسول، الكردفاني القح، النقي نقاء البادية، كانت له حنكة وحكمة يحملها في كراريسه من خضرة باديته الكردفانية الممتدة. لا يغضب ولا يتعقد، ويدري كيف ينتزع الدعابة المرحة من بين فكي المصيبة. كان جل حديثنا إذا التقينا مشحونا بالمقارنات والعبر في سياق من الدعابة، وكان إذا انفتحت أساريره للدعابة يجعلك تسبح في بحر لا شواطئ له.

ذلك البدوي الطارئ في أجواء المدينة كان يعلم أنه لن يسامي أهل البندر في ارتفاع منازلهم، ولا هو مجبور أصلاً أن يفعل. يكفي أهله وضيوفه أن تتسع نفوسهم للقليل الذي يسع ضيوف البادية. لذلك اتخذ بيتا في الحتانة ليس ناشزا في معماره من بيت بدوي في المجلد او الميرم او بابنوسة. بيتا بغير أبهة ولا متاع غير أن ساكنه يوشك أن يمسك بكفيه السحاب من سعة فنائه وسعة أوانيه.

أقول: حتى عندما سنحت لكم الفرصة لتكونوا بشاطئي النيل اخترتم أن تبقوا “غربه”. فيضحك ضحكة عميقة تشرق بأسرارها أساريره، فهنا تختلط السياسة والبداوة وقصص يرويها أناس عن أصناف شتى من أناس آخرين. أتقدم إلى الإجابة من طرفي وقد تهيّأ هو لحديث مشبع بالسخرية، أقول: هل تراكم خشيتم على أنفسكم ممن بالشاطئ الآخر؟ أم أنكم خشيتم على من بالشاطئ الآخرمن أنفسكم؟ أم أنكم على طريقة زعيمكم الحكيم بابو نمر الذي قال عندما سأله بعضهم على عهد الرئيس نميري: لم لا يغادر الاتحاد الاشتراكي ولم تعد فيه فائدة ترجى، أجاب إنه يستعير الحكمة من فعل القرد في أعالي الشجر، إذ يستحيل أن يفلت القرد الفرع الذي بيده قبل من يمسك الفرع الآخر باليد الثانية. وتأسيسًا على هذا يمكن القول: “غصناً في الإيد ولا فرعاً بعيد” أو إذا شئت قل: “غرباً مضمون ولا بحراً مجهجه”.

عبد الرسول من القليلين الذين حافظوا على تميزهم بالسمات الأنصاري، لا تخطئه العين من على بعد ميل وقد اعتجر عمامته الأنصارية الملفوفة بعناية فائقة كأنه قادم لتوه من جبل قدير بعد أن بايع المهدي. أنصاري مخلص، يذكرك بشهادة الإمام لأهله المسيرية خاصة: “المسيرية أبكار المهدية” متدين بغير تشدد، وذو موهبة في أقامة العلاقات مع الناس، بلا عنت، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. كان، إلى جانب مهارته بالسياسة، كنزاً اجتماعياً للأنصار وحزب الأمة. كانت له صداقات متعددة ومتمددة وسط الإسلاميين عززتها الصحبة السياسية والرفقة الجهادية، وكانت فترة السبعينات من أكثر الفترات غزارة في العلاقات.

كنا شركاء في القطاع الشبابي الطلابي بالجبهة الوطنية التي ضمت الاتجاه الإسلامي، وحزب الأمة، والاتحاديين. تلك المجموعة من الثائرين الشباب كانوا مسئولين عن التنسيق لتعبئة الشارع السياسي وأسقاط الحكومة وتنصيب حكومة جديدة. لكن ما كانت الجبهة الوطنية التي قادت ذلك الحراك التاريخي تطمح إلى إسقاط النظام “وبس”، بالأحرى هي كانت قد أعدت رزنامة لتأسيس ديمقراطي محترم.

الأحداث التي سادت تلك الفترة بعد انطلاقها من جامعة الخرطوم في شهر شعبان من عام ١٩٧٣ هي التي جمرت تلك الفئة من الشباب وأبرزت صلابة عنصرهم واستحقاقهم للشعار الذي روّجه طلاب الاتجاه الإسلامي آنذاك وهم في قمة ثوريتهم وعطائهم: “أصلب العناصر لأصعب المواقف”. عبد الرسول النور وصحبه من حزب الأمة، وقوى الإسلاميين الضاربة في الوسط الطلابي والشبابي آنذاك، بالإضافة إلى الاتحاديين بالطبع، شكلوا كتائب الصدمة في المعمعة التي دارت من بعد وهزت الحكومة القائمة كما لم تهتز من قبل.

شغلت تلك الأحداث الساحة من بداية السبعينات إلى منتصف ١٩٧٦ عام الأحداث المشهورة الذي وجهت فيه قوات الجبهة الوطنية ضربة عسكرية غير مسبوقة للحكومة واحتلت بعض المرافق العسكرية المهمة بالعاصمة قرابة يوم الجمعة، الثاني من يوليو، بطوله. هذا التنسيق المتطور والشراكة الوطنية المتصاعدة نسجت وشائج فكرية وسياسية ووضعت أساسا متيناً لوحدة القوى الوطنية والوطنية والإسلامية. لكن تلك الوحدة المرجوة تعرضت في السنوات اللاحقة لانتكاسات مؤسفة مشهودة.

ساهم عبد الرسول بحكمته في المحافظة على حزب الأمة موحدا في وجه الفتن التي كادت أن تشطّره، فلم يشتط في خصومة، ولم يوفر جهدا يقرب به بين الأبعدين الشاطنين في الأذى، وعندما أعيته الحيل كفّ يده ولسانه واتخذ مكانا قصيا. ومن خارج أسوار الحزبية، التي أضحى يتجنب أن تحبسه في مواعينها الضيقة صار شخصية عامة ينتفع منها كل من طلب هداية أو حكمة في السياسة والعمل العام من أهل السودان.
عبد الرسول النور كان آخر الحكماء من أبناء جيله، أصبح الوجه شامخ ودائم الابتسام، فارقنا والسودان في أشد الحاجة إليه، لكنه سيبقى في ذاكرتنا ذلك الحكيم الآتي من بوادي كردفان يوزع الحكمة والسماحة بين أبناء وطنه.

كان عبد الرسول بين أقرانه “كالرأس والمنكبين فوق الآخرين”، أوتي الحكمة “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً”.

رحمه الله رحمة واسعة وأدخله الجنة بغير حساب، وخفف عنا وعن أهله لوعة الفاجعة.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...