✍د.قطبي المهدي!
💥الوجه الاخر لانس عمر!!
ربما عرف الناس الأستاذ انس عمر كمجاهد عرفته ساحات القتال فدائيا شجاعا ومناضلا صلب المراس . لكن قليل من الناس من يعرف الوجه الآخر لأنس والذى تجلي بعد أن إختبرت قدراته في مجال الإدارة والبناء في واحدة من أصعب المهام . أنشئت لأول مرة ولاية شرق دارفور! لم يكن بها من البنيات التحتية أي شيء علي الإطلاق سوي إستراحة قديمة كان يستخدمها المحافظ في السابق كسكن ومكتب وضيافة.
وكانت المنطقة تعيش فى جحيم الحرب وفوضي الأمن أكثر من أي منطقة أخري في دارفور . كان التمرد بكل عصاباته يسيطر علي محليات شرق الجبل! ويعيث فساد فى محليات شعيرية ويس وغيرها .كانت الحرب بين المعاليا والرزيقات مستعرة حتي في الضعين العاصمة ذاتها ويمتد أوارها حتي أبو كارنكا وإلي حدود الولاية الشرقية مع غرب كردفان! أما المحليات الجنوبية المتأخمة لبحر العرب فهي كذلك خارج السيطرة تتعرض لهجمات الحركات المتمركزةفى الجنوب وقتها كما ظهر ذلك في معركة قوز دنقو وغيرها .
كل الطرق كانت تحت سيطرت المتمردين وعصابات النهب المسلح وقد توقفت الحركة تماما إلا لقوات المليشيات وإنعكس ذلك علي النشاط التجاري والإجتماعي بصورة سالبة للغاية.
ذهب أنس لتأسيس الولاية فى هذا الوضع ولم يكن له سابق معرفة بالولاية المستحدثة ولا بأهلها. وكان رصيده الوحيد هو شجاعته وفدائيته وروحه القتالية.
وأرادت المليشيات النافذة فى ذلك الوقت أن ترسل له رسالة أن سياسته الوفاقية والتصالحية السلمية لا مكان لها فى الولاية وأن هناك جهة واحدة مسيطرة وما عليه إلا أن يفهم ويقبل بذلك فانتهزت غيابه فى الفاشر وهاجمت الإستراحة التي كان يقيم فيها بأسلحة ثقيلة وقتلوا حرسه ونهبوا منزله وأخذوا أشياءه حتي الشخصية وأضرموا النار في المحل .
لما سمع بالحادث قطع مهمته فى الفاشر فورا وتوجه لولايته مخاطرا بحياته متحديا الموت حيث شيع حرسه وبقي في أنقاض مسكنه وتوجه إلي المسجد الجامع حيث خاطب المصلين خطابا مؤثرا. فالتف جمهور المدينة حوله وإستعادوا المنهوبات من المليشيات وسلمتها له ومن وقتها أصبحت له قاعدة شعبية صلبه فى مواجهة العناصر المتفلته.
ما فعله أنس في الولاية يعتبر معجزة بكل المقاييس سواء في مجال العمل السياسي بتحقيق الوفاق والسلام بين مكونات الولاية الإجتماعية والقبلية(المعاليا والرزيقات والعرب والزرقة الخ ) أو القضاء علي التمرد والحرب القبلية والنهب المسلح وبسط الأمن وجمع السلاح! أو التنمية والبنيات التحتية مما جعل الولاية فى فترة وجيزة تنهض إداريا وإقتصاديا وخدميا بصورة فاقت فيها أقدم الولايات!
وحتي ادلل علي ذلك أذكر هنا تجربة مباشرة وقفت فيها علي ذلك بنفسي! فقد كنت أنوي ومعي أحد المهندسين الإستشاريين الكبار زيارة الولاية لبعض الأعمال! وظللنا أربعة أشهر نحاول الذهاب دون جدوي فالطريق البري سواء من النهود أو من نيالا مستحيل بسبب الوضع الأمني! حاولنا السفر إلي حقل بليلة وإستغلال طائرة هليكوبتر من هناك إلي الضعين! لم يتيسر! بعد أربعة أشهر وبعد أن أصابنا الياس علمنا بإفتتاح مطار في الضعين وأن هناك سفريات يومية إلي المدينة! لم نكد نصدق! فرتبنا أمرنا وسافرنا .
يبعد المطار من المدينه حوالي كيلومترين ويصله بالمدينه طريق مسفلت! حينما تنظر علي جانبي الطريق تظن أنك فى الخرطوم فقد إنتصبت بنايات حديثة تضم مباني الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة بما في ذلك أمانة الحكومة والمجلس التشريعي!
شيء لا يصدق !!
المبنى الوحيد الذى لم يشيده الوالي هو منزل الوالي فقد بقي فى الإستراحة القديمة وظل يباشر عمله في المساء يوميا مع المواطنين من هناك وأحيانا فى الهواء الطلق أمام الاستراحة في الشارع العام .
قررنا أن نزور محلية أبو كارنكا معقل قبيلة المعاليا. فأخبرني المواطنون أن الخروج من الضعين كان ممنوعا بعد الظهر بسبب خطورة الوضع الأمني ولكن الطريق أصبح آمنا فى كل وقت . أخذنا السيارة وليس معنا سوي مرافق واحد! وكنا طوال الطريق نشاهد سيارات المواطنين (بك آب) محملة بالبضائع متجهة إلي سوق أبي كارنكا وهم آمنون من النهب المسلح .
وصلنا المدينه الصغيرة وبدأنا بزيارة دار العمدة وساعتهاوجدنا معه مجموعة من عرب الرزيقات فى جلسة أخوية يسودها كامل الإخاء والسلام والإرتياح! وهو شعور تلمسه عند جميع مواطني الولاية الذين تذوقوا طعم السلام بعدعهود من التوتر والإقتتال وتضرر المصالح.
والجميع يشيد بجهود الوالي أنس وإنجازاته! زرنا سوق المدينه فوجدناه عامرا بكل أنواع البضائع المطلوبة من الريف المجاور والمعروض في محلات سوق المدينة! وشاهدنا مبني فرع بنك الإدخار والتنمية الإجتماعية الذي أفتتح وقتها والذي أشاد الوالد الحالي محمد عيسي عليو بدوره فى النهضة التجارية والإقتصادية فى المدينه وطالب بإفتتاح المزيد من الفروع في المحليات الأخري.
زرنا أيضا مباني كلية الهندسة وهي تابعة لجامعة الضعين التي أنشئت حديثا .ثم مررنا بملعب للسداسيات وعلق المسؤول المرافق قائلا :(هل تصدقون أن هولاء اللاعبين ينتمون لقبيلتي المعاليا والرزيقات ؟ أصبحت المحاورة بالكرة بدل الدوشكا)
كان الوقت بعد المغرب حينما قفلنا عائدين .وكان مواطني المحلية قد أخذوا مشترياتهم من السوق وحملوها في سياراتهم وتوجهوا صوب قراهم آمنين مطمئنين . خرجنا نحن ووصلنا عند منتصف الليل لم نر مسلحا واحدا في غدونا ورواحنا ولم نقف علي حادث أو يستوقفنا حاجز! وقد كانت هذه الرحلة في السابق إحدي المستحيلات .
في اليوم التالي ذهبنا إلي أبو مطارق محلية بحر العرب في أقصي الجنوب وهي أكبر سوق للمواشي(الأبقار) فى دار فور وتستطيع أن تقول فى السودان! سوق منظم غاية النظام تشرف عليه المحلية ومعتمدها .الشئ الملفت أن الوالي أنس كان موفقا فى وجود معتمدين فى غاية الكفاءة والإحساس بالمسؤولية والروح الرسالي في كافة المحليات! هناك أيضا لمسنا روح السلام الذى ساد المحلية خاصة بعد الهزيمة المدوية لقوي التمرد فى قوز دنقو والتي وضعت حدا نهائيا للتمرد وأمنت الحدود الجنوبية من أي تهديد.
تلمس كذلك التوجه للتنمية فى ظل السلام الجديد والحماس الشديد للبناء والوعي بأهمية العمل المشترك! وقد إطلعنا المعتمد وفريقه العامل علي عدد من المشروعات الإنتاجية المستحدثة. زرنا فى رحلتنا منتجع سبدو وهي منطقة سياحية غاية في الجمال وقد تم تطوير المنتجع مؤخرا بحيث أصبحت مرافقة الجديدة التي بنيت علي أجمل طراز مهياة لإستقبال السياح.
مررنا علي الكثير من القري الآمنة و وجدنا السلام والأمن قد عم المحلية وكنت تري علي طول الطريق قطعان الماشية مرحلة من السوق في طريقها للصادر قادمة من سوق أبو مطارق وأصحابها امنين تماما . ونظرا لطول الطريق فقد إستغرقت العودة معظم الليل ووصلنا فى الساعات الأولي من الصباح.
فى اليوم التالي تجولنا داخل مدينة الضعين! إستكشفنا السوق وزرنا الوزارات ووقفنا علي خطط الخدمات وخطط التنمية فالمدينة في حالة تحول من مدينة منسية إلي عاصمة ولاية والوزارات جميعها أصبحت تستكشف إمكانات الولاية المختلفة لإستغلالها في تطوير إقتصاد الولاية! وهذا حديث يطول لن نتمكن من إستقصائه هنا . لكن الملفت أننا وجدنا مصنعا واحدا للزيوت إستطاع أن يستوعب جميع إنتاج الولاية من الفول السوداني! المحصول الأساسي فى الولاية! بل يستورد من خارجها حتي يعمل بكل طاقته! هذا شجع المواطنين علي التوسع فى زراعة الفول علما بأنهم فى غالبيتهم رعاة ،وشجع أيضا الولاية أن تفكر في التوسع في مجال الصناعات التحويلية.وجدنا ولأول مرة فى تاريخ الولاية جهود لزراعة الخضر والفاكهة بإشراف وتشجيع الوالى!
ذهبنا إلي محلية يس وهي محلية يمتاز أهلها بامتهانهم الزراعة. وتضع الولاية أمالها فى خبرتهم فى هذا المجال للدفع بعملية الإنتاج الزراعي! وهذه المحلية كانت في خط المواجهة مع التمرد ولكن الأمن سواء فى المدينة أو علي الطريق إليها كان مستتبا تماما.
بالعودة للضعين فقد قامت الولاية الجديدة بقيادة أنس بإنشاء عدد مقدر من المدارس فى كافة المراحل إلي جانب الجامعه والتي خطط لها بأن تصبح جامعه تقنية تستوعب الأجيال الجديدة من أبناء الولاية واعدادهم لوظائف تحتاجها التنمية القادمة.
وأنشا الوالي حديقة كبري فى المدينة بها مرافق مختلفه ثقافية وتربوية وسياحية ورياضية نقلت المدينه من شبه قرية متخلفة إلي مدينة حضرية متقدمة! كما توسع في خدمات المياة والكهرباء والصحة والطرق الداخلية والشرطة .
من الصعب أن يتصور الإنسان أن الناس في مثل هذه البيئة ياتون طوعا ليسلموا أسلحتهم إستجابة لنداء السلطات رغم ما شهدته الولاية من توترات وحروب في الماضي القريب لكنه تأثير القيادة الملهمة التي إستطاعت أن تكسب قلوب وعقول المواطنين فقد رأينا كميات هائلة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة تم جمعها من المواطنين فى تلك الفترة .
لقد تحدثنا طويلا مع الوالي وتعرفنا علي السر وراء تلك الإنجازات من خلال ما شرحه لنا عن مجهوداته الإستراتيجية والسياسية والإدارية لكن ما رايناه عيانا بيانا كان أبلغ فى الشهادة له بتلك القدرات.
فى طريق العودة وجدنا طائرتين فى المطار متجهتان للخرطوم فى نفس اليوم ونفس الوقت! .. فسبحان الله.