في معرض تقييم نضال الحزب الشيوعي ضد نظام الفريق إبراهيم عبود (١٩٥٨-١٩٦٤) كتب أستاذنا عبد الخالق محجوب أنها كانت “إثارية”. فكانت، في قوله، ضد نظام عسكري ليرجع للثكنات في حين صح النضال ضده كنظام طبقي “لا بوصفه ديكتاتورية عسكرية بل بوصفه نظاماً طبقيا أداته العسكرية (الماركسية وقضايا الثورة السودانية. تقرير المؤتمر الرابع ١٩٦٧ للحزب الشيوعي، الطبعة الثانية، ١٢٥).
لم يشفع لنضال الحزب الشيوعيين الأسطوري لنظام عبود، الذي وضع القواعد في المبدئية والفدائية والمكر التكتيكي لكل نضال بعده، من أن يخضع لهذه القساوة في التحليل من قائده الفذ. في حين تجد الأحزاب التي من وراء الثورة والانتقالية الكاسدة تبخل على نفسها من مثله وهي “تسلم الفارغة” للشعب من جديد. والحزب الشيوعي هو أكثر الأحزاب بخلاً بهذا النقد لنكسة الحكومة الانتقالية لأنه شديد العقيدة أنه، طالما اعتزل قحت، فقد وقع له امتياز نهزرتها. فاستبشر كمال كرار مؤخراً بخروج جماعة من قحت ووصفه بأنه “بمثابة النجاة من المركب الغارق. ولفت إلى أن قوى التغيير قد طبزت عينها بيدها بعد فشلها في إدارة الشارع”. أما حزب كمال فخرج من كل هذا خروج الشعرة من العجين. عجبوني الليله جو.
أعوج ما في نضال الأحزاب التي تشكلت منها قحت (بما فيها الحزب الشيوعي) ضد نظام الإنقاذ أنه كان حرباً له كنظام للكيزان لا نظاماً اجتماعياً الكيزان مجرد عنوانه السياسي. ولن تغالط الأحزاب، ولو شاءت، في هذا التقرير عنها. فلا أعرف من جهل خصمه دون العنوان مثلها وبشهادة موثقة منها. فظلت تمضغ بشيء من البله لثلاثة عقود سؤال الطيب صالح: من أين جاء هؤلاء الناس؟ وهم الكيزان. وكنت أقول لهم لو صح هذا السؤال من مثل قامة روحية كالطيب صالح فهو اشمئزاز منه لأنه نظام أقلق مضاجع روحه المبدعة. أما أن يتوقف علم الاقتصاد السياسي عندنا دون تشخيص الإنقاذ لا كنظام مدجج بالكيزان والعسكرية بل كنظام طبقي واجتماعي فباب للضلال في مجاهل المعارضة الإثارية.
كنت كلما سمعت سؤال الطيب صالح يثار وسط المعارضين (وكثير ما حدث ذلك وإلى يومنا) ويظن المثير له أنه على تمام المعرفة أذكر حكاية مروية عن جدي أحمد ود حمد إزيرق رحمه الله. كان جاء يزور ولديه عبد اللطيف ومحمد ممن سكنا حي المقرن القديم المشاطئ لزمنه للنيل. وكانت على النيل عند المقرن ساقية يمر بها الراكب من الخرطوم لأم درمان والعكس. وكانت تهف لجدي في العصريات أن “يتدلى للبحر” لكي يملأ عينيه الفلاحتين بدفق مياهه المكتوب ليها أن تسقي زرعه بالبرصة بالشمالية. وأن يسمع أيضاً خرير الساقية الذي هو موسيقي في أذنه القديمة.
وحصل يوماً أن صدمه موتر وهو يقطع الشارع إلى مهرجان الماء والموسيقي. فوقع وكسر رجله. وأخذوه إلى المستشفى. وجاءت الشرطة لأخذ أقواله. سئل: يا حاج أحمد انت الموتر داك جاك من ين؟ فنظر جدي للشرطي شذراً فنحن قوم لا نحب الأسئلة التي لا إجابة عليها. وقال:
-إنت يا زول مجنون واللا ضاربك جن؟
-يا حاج دايرين نعرف للتحقيق الموتر دا جا من وين؟
فالتفت إلى ابنه عبد اللطيف:
-يا عبد اللطيف إيه إيه (وهي هنا حد الاستنكار عندنا) إنت الزول دا حكايتو شنو؟
-يا أبوي الزول داير يثبت حقك في القضية.
-عبد اللطيف قضية شنو إنت مجنون واللا ضاربك جن؟
والتفت جدي إلى الشرطي حين استحال عليه اقناع أياً من حوله بإن ذلك السؤال سؤال إدا وقال:
-أها الموتر دا جاني من السما دا.
وطال العمر بجدي ومات ولم يعرف إلى يوم رحيله من أين جاءه الموتر فكسر رجله. ولم يكترث.
من إين جاء هؤلاء؟ من السما دا! وهذا زعم الكيزان على كل حال.
وهذه مقدمة لحديث عن الأحزاب التي قضت على الإنقاذ بغير أن تعرفه. ثم قضى عليه “بعاتي” الإنقاذ ولم تزل في جهلها به.
قد يعجبك ايضا
تعليقات