عندما تغدو الصحافة سُلطة مُستبدة

أمواج ناعمة

د. ياسر محجوب الحسين

لحين من الوقت حوّلت تلك الصحفية، الصحافة السودانية من ضحية للاستبداد السياسي إلى كيان مستبد. وسط دهشة عقدت الألسن، رمت تلك الصحفية بحذائها، سياسيا سودانيا أثناء مؤتمر صحفي عقده مع مجموعة أخرى من السياسيين. وبررت الصحفية فعلتها المنافية للقيم الأخلاقية والمهنية قبل أن تعتذر لاحقا بأنها “رسالة من الشعب السوداني”. واستغلت الصحفية التي سنطلق عليها هذه الصفة تجاوزاً، فرصة مُنحت لها لمخاطبة المنصة لاعتباريتها الصحفية وحقها في إلقاء سؤال في سياق المؤتمر الصحفي.
قبل نحو 10 سنوات نظّم الاتحاد الدولي للصحفيين والنقابة الوطنية للصحفيين الجزائريين بالتعاون مع منظمة فريدريش إيبرت ورشة عمل في الجزائر بعنوان (البناء النقابي والمساواة في قطاع الإعلام) بمشاركة ممثلين عن نقابات الصحفيين العربية، ومعلوم أن الاتحاد الدولي للصحفيين منظمة نقابية دولية تجمع اتحادات ونقابات الصحفيين حول العالم وتضم في عضويتها (600) ألف صحفي بمن فيهم الصحفيون العرب. الورشة التي اتيحت لي فرصة المشاركة فيها، تشكّل فيها اجماع كامل من جانب المشاركين على سيطرة اشكالية (من هو الصحفي؟) على المشهد الصحافي العربي اجمالا. وكانت أهم توصيات الورشة ضبط مهنة الصحافة وتشديد قواعد ولوج المهنة حماية لها من التميّيع والاستغلال. والتمييع تستفيد منه، بل تشجعه سلطات الاستبداد. لأن عدم نقاء الجسم الصحفي من الدخلاء يشجع على التدخل في عمل الصحفيين والتأثير السلبي عليهم، ويتحول بعض الصحفيين إلى نشطاء سياسيين مستغلين المنابر الصحفية لبث الدعاية السياسية، كما حاولت تلك الصحفية. الملاحظة الجديرة بالوقوف عندها أن فعل تلك الصحفية لم يلق التصفيق والتشجيع إلا من كيانات وشخصيات سياسية، وليس من كيانات أو شخصيات مهنية، الأمر الذي يرجح الدفع والغرض السياسي من وراء تصرف تلك الصحفية.
في السودان ظل الاتحاد العام للصحفيين السودانيين يملك حق منح القيد الصحفي وهي شهادة أو رخصة تمكن حاملها من ممارسة الصحافة بصورة احترافية. وقبل ذلك كان منح القيد الصحفي في السودان من اختصاص المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية وهو هيئة حكومية يتم تعيين رئيسه وأمينه العام وعدد من أعضائه بقرار من رئيس الجمهورية، أما قانون الصحافة الذي مازال ساريا دون تفعيل والصادر في العام 2009م، فقد منح هذا الحق للاتحاد وكان هذا نصراً كبيراً للصحافة السودانية في اطار تعزيز مهنيتها، وتحديد من هو الصحفي وسحب البساط من السلطات السياسية أن تحدد من هو الصحفي وبالتالي تأسيس جيوب سياسية داخل الجسم الصحفي المهني. لكن هناك تيارات حكومية لم يعجبها هذا الوضع ودارت (معركة) بين الاتحاد والمجلس في محاولة من الأخير نزع هذا الحق من جديد واعادته للحظيرة الحكومية. ولعل طبيعة المعارك التي دارت بشأن هذه القضية توضح بجلاء تلكم المحاولات السياسية للتحكم في مهنة الصحافة بشتى الطرق. فدارت معارك حول قانون 2009 بهدف نزع ميزة منح صلاحية تحديد من هو الصحفي من اتحاد الصحفيين، فبينما كان المجلس القومي للصحافة يريد للنزع اتحاد الصحفيين يطالب بتعديلات تمنع جهاز الأمن والمخابرات من مصادرة وإغلاق الصحف واعتبار قانون الصحافة والمطبوعات المرجعية الوحيدة التي تنظم عمل الصحافة. لقد كانت من التوصيات المهمة لتلك الورشة اعطاء دور أكبر للاتحادات والنقابات المهنية في منح رخصة العمل في الصحافة وتأهيل الصحفيين بصورة احترافية تمكنهم من استيفاء شروط حمل البطاقة الصحفية. اليوم اتحاد الصحفيين السودانيين مجمد منذ التغيير السياسي في ابريل 2019 واحتلت مبانيه قوة مسلحة، فمنذ 3 سنوات يخيم خلل في تحديد من هو الصحفي؟ فضلا عن انتهاء الرقابة التي كان يمارسها الاتحاد على منسوبيه ضبطا للأداء وتحريا للالتزام المهني والأخلاقي.
إن هموم الصحافة تؤرق الصحفيين في السودان وتقضّ مضاجعهم بشكل يومي، ويعيش القارئ معهم عنت الحياة واللهث اليومي وراء لقمة العيش. ولولا ذلك لما كان نصيب القارئ السوداني فقط نسخة واحدة لكل 125 شخصا وفقا لتقرير سابق لمجلس الصحافة، بينما على سبيل المثال في قطر نسخة لكل 7 أشخاص. إن الوضع الاقتصادي الضاغط لا يصيب الحلقات الضعيفة في العملية الاقتصادية بل يدمرها تدميرا، والصحف باعتبارها مؤسسات اقتصادية تعتبر أضعف الحلقات. فإن ماطل المعلن ولم يدفع ما عليه من التزامات للصحف، فإن الصحف ستنشر له رغم ذلك، لأن الخسارة حاصلة سواء نشرت له أو لم تنشر، لأن تكاليف الصدور اليومي مستمرة ما دامت الصحيفة تصدر، ولا يبدو من المنطق الامتناع عن نشر أي إعلان في هذه الحالة. والمعلن والشركات واحدة من الحلقات القوية في صناعة الصحافة، يسدد متى شاء وكيف ما شاء. وفي ذات الوقت فإن المطابع تستطيع منع طباعة أي صحيفة إن تأخرت في دفع ما عليها من إلتزامات وهي غير معنية بعدم سداد المعلن لالتزاماته تجاه الصحيفة.
لم تدر تلك الصحفية المتُعدّية أن تــدوين أخلاقيــات العمـل الصحفي والإعلامــي ومواثيــق الشـرف وقواعــد الســلوك المهنيــة للمرة الأولى تمّ فـي بدايـة العشـرينات مـن القـرن الماضـي. وهنـاك العديد من الدول في العالم لديها نظم متطـورةً فـي الاتصـال الجمـاهيري ذات مواثيــق لأخلاقيــات المهنــة تــؤثر بشــكل فعــال علــى القــائمين بالاتصــال. فلابد للصحفي أن يحـافظ علـى أمانتـه ورسـالته التي يحملها، وهو ليس مخلبا سياسيا أو أداة لتلميــع الآخرين. وعليه أن يكتب بموضوعية ويفصل بين رأيه وعاطفته. والصحفي مسؤول عن المحافظة على حقوق الآخرين، وعدم التعــدي على حقوقهم أو تجــاوز حريــاتهم وكشــف أســرارهم وخصوصياتهم. باختصار فإن أخلاقيــات مهنــة الصــحافة وفقا لقــاموس الصــحافة والإعــلام هـــي مجموعـــة القواعـــد المتعلقـــة بالســـلوك المهنـــي والتـــي وضعتها مهنة منظمة لكافة أعضائها، حيث تحدد هذه القواعد وتراقب تطبيقها وتســهر علــى احترامهــا، وهــي أخــلاق وقيم تضامنية الالتزام، بل هي واجبــات مُكملــة أو معوّضــة للتشريع وتطبيقاته من قبل أهل القانون. فالأخلاق المهنية ليست مرتبطة ببساطة بالممارسة السليمة للمهنـة فحسـب بـل تنبـع أساسـا مـن الأهـداف السـامية للكلمـة.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...