الإعلام.. سطوة الاجندات وخيار الصمت

أمواج ناعمة

د. ياسر محجوب الحسين

في حالة العلاقة الإذعانية بين السياسة والإعلام، تغدو وسائل الإعلام أدوات “بطش” لفرض الأجندة السياسية وتحويل المتلقي (الضحية) إلى كائن لا حول له ولا قوة، وتخضعه إخضاعاً لتلك الأجندة، خاصة تلك الموغلة في الشّر. وليس الحديث هنا عن الاقناع عبر التداول الحر للمعلومات وبشكل قد يبدو تلقائياً، بيد أن العملية القهرية لتشكيل الرأي العام، تقوم على خطة رغائبية محددة تستخدم الدعاية السياسية لفرض الأجندة السياسية وترتيب أولويات العملية الإعلامية
للعالم الفرنسي بيار بورديو مصطلح انفرد به واشتهر به عند تناوله لقضية الرأي العام والديمقراطية والمشاركة السّياسية. المصطلح هو “اغتصاب الحشود” وقصد به تلاعب السلطات السّياسية وكذلك الشركات الكبرى العابرة للحدود، بالجماهير وبالحشود لتمرير رسائل معينة وأجندة معينة لصناعة الرأي العام الذي يتناغم ويتناسق مع مصالحهم التي غالبا ما تتعارض مع مصالح الجماهير نفسها. ويرى بورديو أن الحشود في حقيقة الأمر تُغتصب وتُستعمل كأرقام ونسب مئوية لتمرير البرامج والمصادقة على القوانين وغيرها من البرامج والمشاريع. ويذهب البعض إلى أن الحشود والجماهير في العالم العربي تُغتصب ويفبرك رأيها العام بآليات وميكانيزمات تتحكم فيها مسبقاً القوى المتنفذة في المجتمع.
بحوث ونظريات الإعلام على مدى القرن الماضي فسرت ما يجري ويدور في هذا الصدد؛ ففي نظرية دوامة الصمت هناك مسائل متعلقة بتشكيل الرأي العام تستثمر فيها القوى الغاشمة، حيث يشعر الفرد في مجتمع ما بتهديد المجتمع له بالعزلة إذا ما خرق الاجماع سواء كان طبيعيا أو مفتعلا أو مزيفا. وفي حالات الاجماع الطبيعي فإنه يمثل التماسك الاجتماعي الذي يتأسس على مجموعة من القيم والأهداف. ويتبع ذلك الخوف من العزلة؛ حيث تتسـم عملية تكوين رأي الفرد وسلوكه بخشية الفرد من أن يصبح معزولا اجتماعيا. ونتيجة لخوف العزلة تنشأ حساسية لدى الأفراد، فيعمدون إلى مراقبة محيطهم باستمرار، بغرض رصد كيفية توزع الآراء في الحاضر، بالإضافة إلى محاولة استشراف ما ستؤول إليه في المستقبل. هذه المراقبة يمكن أن تأخذ شكل تعرّض لتغطية وسيلة إعلامية لقضية ما، أو ملاحظة مباشرة للمحيط، أو نقاش مباشر للقضايا مع الغير. وفي حالة انسجام رأي الفرد مع الرأي الجمعي يميل للتعبير علنا عن رأيه وموقفه. أما إذا ما لمس ذلك الفرد أن رأيه يمثل رأي الأقلية، فإنه يصبح أكثر حذرا وتحفظًا، ويميل إلى الصمت.
ومن خلال نظرية “ترتيب الأولويات” في فضاء الإعلام وعطفا على نظرية دوامة الصمت سالفة الذكر تكتمل حلقات السيطرة على عقول الناس. وهذا ما أقر به العالم التر ليبمان من خلال كتابه (الرأي العام) عام 1922، الذي أشار فيه إلى أن وسائل الإعلام تساعد في بناء الصورة الذهنية لدى الجمهور وفي كثير من الأحيان تقدم هذه الوسائل بيئة زائفة في عقول الجمهور.
حتى تقارير ودراسات قياس الرأي العام يبدو كثيرا منها محل تشكيك، فغير أنها تصدرها مؤسسات قد ترتبط بمراكز القوى، فعملية قياس الرأي العام ترتكز على أسس، من أهمها حصول العينات التي يشملها القياس على المعلومة الدقيقة، وعلى الخلفية التي تقف وراء هذه المعلومة، مما يفترض أن تختبر افتراضين، هما حجب المعلومات عن الناس بحيث يتشكل الرأي العام من خلال إملاءات غير مباشرة. أو عدم قدرة الأفراد على الوصول إلى المعلومات المحجوبة عنهم بوسائل مختلفة. ولعل هذين الأمرين كليهما وارد في استطلاعات الرأي العام فتبدو اقرب إلى التزييف خدمة للأجندات السياسية. ولذا قد يمثل قياس الرأي العام اختراعاً اجتماعياً لا يمكن فصله عن النسيج المؤسساتي الذي يعمل من خلاله. وهذا ربما يعني أنه مهما جرت صياغته في تعبيرات علمية، هو في المقام الأول أداة تخدم أهدافاً سياسية، ولا تتسم هذه الأهداف بالوضوح دائماً.
ولعله عندما تكون قياسات الرأي العام مبرأة من الأجندات المشبوهة فإنها تكون بدون شك ذات أهمية لكل من صنّاع الإعلام ومستهلكيه؛ فهي مهمة لوسائل الإعلام لأن الصحفيين يستطيعون استخدامها لتفسير المواقف والتطورات وتقويم قضايا معينة، وتحديد أهمية خيارات معينة، فلم يعد بوسع الصحفي أن يجلس في مقهى ليسجل ما يدور على أنه مؤشر على ما يفكر فيه جمهور الناس. كما أنها كذلك مهمة للجمهور لأنه يستخدمها في الغالب لكي يتعرف على ما يجري حوله، إذ أن مفهوم الرأي العام في عمومه مرتبط بالوعي السّياسي لدى المجتمع.
وإن كانت استطلاعات الرأي العام هي إحدى أهم أدوات قياس الرأي العام والكشف عن مواقفه، فإنه من الضروري تشجيعها في الدول العربية كإحدى آليات الإصلاح الديمقراطي، وكوسيلة متفقٌ عليها للتعرف على آراء المواطنين، غير أن الدعوة لها ورفض أي قيود إدارية أو سّياسية على الحق في إجرائها يجب أن يترافق مع مجموعة من الشروط التي تسعى لحماية الرأي العام من الاستغلال والتوظيف السّياسي، وتضمن أكبر قدر من الدقة والموضوعية في ممارسات عملية إجراء استطلاعات الرأي العام وإذاعة أو نشر نتائجها في وسائل الإعلام.
وفي العموم تضع عملية تشكيل الرأي العام العربي عبئاً كبيراً على أجهزة الإعلام المتحررة من سطوة الأجندات، ويتمثل ذلك في مهمة تجديد العقل العربي، هذا التجديد الذي تجاوز مرحلة كونه مطلباّ ثقافياّ، بعد أن أصبح مقوماً تنموياً لتأهيل المجتمعات العربية لدخول عصر المعلومات. ولا يمكن إغفال أن مجمل العُدة المعرفية لجمهرة العقول لدينا باتت دون الحد الأدنى اللازم لمجتمع المعرفة والتعلّم وحوار الثقافات.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...