حوارات حول الأفكار… (101) الدولة… مؤسسات و أدوار (3)
حيدر معتصم
السياسة مثلها مثل بقية العلوم الإنسانية الأخري هي عمليةحيوية لا تقبل الجمود أو العشوائية أو التزوير و تعتمد بشكل جدي على رصد وتحليل المعلومات عن توجهات الرأي العام و الأحداث السياسية و الأمنية و الإقتصادية و المجتمعية و الإقليمية و الدولية على مدار اليوم والساعة و تحويلها إلى بيانات ثم قراءات يتم الإعتماد عليها كليةً في إتخاذ القرارات و بناء الخطط، و عادة ما تتم هذه العمليات الهامة لتطور و إرتقاء العملية السياسية داخل مؤسسات بحثية متخصصة مستقلة أو تابعة لكيانات حزبية أو أكاديمية تمثل مرآة تعكس الواقع بتجرد لا يقبل التزوير أو التغبيش أو التجميل و إلا فستتحول تلك المؤسسات البحثية إلى واحدة من أدوات الصراع النخبوي التاريخي الدائر و تتحول تبعاً لذلك العملية السياسية برمتها إلى فشل و بوار و تجربتنا السياسية في السودان منذ الإستقلال نموذج حي لذلك الفشل مما يستدعي التفكير في إعادة تشكيل وهيكلة الخارطة السياسية من أجل إستشراف مستقبل سياسي جديد قائم على أسس وطنية خالصة لا مكان فيه لتمدد أو هيمنة الأيدلوجيا أو الطائفة أو القبيلة إلا داخل إطارها المرسوم دستوريا .
و لما كان توصيف و تعريف الأحزاب السياسية بأنها الوسيط بين المجتمع بتنوعه من جهة و مؤسسات الدولة بأدوارها المختلفة من جهة أخرى فإن إغفال و إهمال الأحزاب السياسية عن جهل لهذا التوصيف يعبر بصدق عن هيمنة العقل القبلي و الرعوي الموروث على تصورات النخب للعملية السياسية برمتها و غياب مفهوم الدولة كمؤسسات و أدوار ، و من أكبر الممارسات الدالة على تخلف العقل السياسي السوداني الحزبي و الأيدلوجي هو إغفاله للجانب البحثي و الفكري و إعتماده كلية في علاقاته البينية مع شركائه على القوة العسكرية حين الإنقلابات والقوة الجماهيرية حين الثورات لإعتقاد راسخ عند تلك النخب أن القوة الخشنة هي أقرب الطرق للتغيير والإستيلاء على السلطة و إهمالها عن جهل لفعالية القوة المدنية الناعمة و نجاعتها في تحقيق الأهداف الوطنية أولا ثم الأهداف الأيدلوجية المرجوة ثانيا بإعتبار أن القوة الناعمة هي الطريق الأقصر من حيث الوقت المستهلك للوصول للحلول المثالية و الأقل كلفة من حيث المال و حفظ الأرواح و من قبل ذلك كله ثقة لا تحدها حدود في قدرة الحلول الناعمة في تحقيق الأهداف وصناعة الإستقرار و التنمية و تحقيق مفهوم الدولة و التجارب الإنسانية حول العالم مليئة بالنماذج الهادية في ذلك الإتجاه، و ما دوران السودان في حلقة مفرغة من التجارب العسكرية و الحزبية منذ الإستقلال إلا إنعكاساً مباشراً لغياب التفكير الإستراتيجي و الإصرار على إستخدام القوة الخشنة بديلا للقوة الناعمة .
إن الإصرار على اللجوء للقوة العسكرية و القوة الجماهيرية في حسم المعارك السياسية هو الدليل القاطع عن الحالة الذهنية و النفسية المعبرة عن تموضع الآخر في العقل النخبوي السوداني كعدو و ليس كشريك و يعود ذلك لسيطرة و هيمنة الأيدلوجيا على التصورات العملية و غياب مفهوم الوطن الجامع من خلال الموروث الثقافي و المكون الحضاري الذي يعبر عن الهوية الوطنية المشتركة
كما ذكرنا سابقاً فإن نشأة الأحزاب السياسية السودانية على أساس العقل القبلي والسلوك الرعوي المنغلق على نفسه و الغير مدرك لمفهوم الدولة و الشراكة السياسية و قبول الآخر هو الذي كرث لهيمنة السلوك الإقصائي والإستئصالي الذي يحكم و يتحكم في علاقات القوى السياسية المختلفة مع بعضها البعض خلال الفترات التي تعقب الإنتخابات الديمقراطية التعددية و حالما ينقلب ذلك السلوك الإقصائي إلى سلوك إستئصالي أكثر تطرفاً حينما يضيقوا زرعاً ببعضهم البعض و ينسد الأفق بعد الإنقلابات العسكرية التي لم ينجو أحد من الوقوع في فخ مستنقعها الآسن و قد ظل التاريخ السياسي الحديث بالسودان رهينا لهذين التيارين لعقود طويلة نتج عنها إنقسام مجتمعي مبنى على الخصام و الكراهية المتبادلة على أساس الإنتماء الأيديولوجي و الطائفي و الجهوي و غيرها من اللافتات المرفوعة التي أدت في النهاية إلى حالة من الإنقسام و التشظي وسط الأحزاب نفسها على مستوى القناعات المنهجية و الفلسفية و تحولت الأحزاب إلى حالة من الإنقسامات الأميبية التي أوجدت مؤخراً وسط النخب و الجماهير طريقة جديدة في التفكير كسرت حاجز سيطرة الأيدلوجيا و طرق التفكير القديم و بدأ يتجه الجزء الأكبر من الناس بسبب هذه الإنقسامات نحو قناعات جديدة تؤمن بالوفاق الوطني منهجا و حكما بدلاً عن الإصطفاف الأيديولوجي لأن التجربة ببساطة تثبت كل يوم أنه ليس بمقدور أحد إقصاء أحد أو إستئصاله مهما كان يمتلك من القوة و حالما تحولت هذه القناعات وسط الأحزاب إلى إنقسام يحمل ملامح تيار جديد يختلف عن التيارات التاريخية من حيث الإيمان بالشراكة السياسية و قبول الآخر المختلف فإننا يمكن أن نقول بكل ثقة أن السودان مقبل على مرحلة جديدة بجيل جديد من السياسين متجاوز لإخفاقات الماضي ومراراته و قادر على صناعة مستقبل واعد بالبشريات. . … نواصل