الدرديري محمد أحمد يكتب.. فولكر: قصة فشله الذريع (2)
فولكر: قصة فشله الذريع (2)
د. الدرديري محمد أحمد
ثاني أسباب فشل فولكر هو ابتعاده عن المبادئ الجوهرية الثلاثة core values للبعثات السياسية للأمم المتحدة. وهذه المبادئ هي الحياد، والمبدئية، وإشراك الجميع. وقد أفاض في تفصيلها في دليل manual مشهور البروفيسير إيان جونستون الأستاذ بمعهد فليتشر للقانون الدولي والدبلوماسية.
فبالنسبة لمبدأ “الحياد” قال جونستون: “لا يمكن لبعثة سياسية أن تبدو وكأنها تخدم أجندة أحد أطراف الصراع، أو أجندة طرف خارجي، أو مصلحة معينة. ومثلما هو الحال مع بعثات حفظ السلام فإنه لا يؤذن بمعاملة طرف ما على نحو مختلف إلا في حالة ارتكاب ذلك الطرف لمخالفات abuses ظاهرة”. خالف فولكر هذا المبدأ دون أدنى مواربة. فانظر كيف أنه ابتداءً عين في موقع كبيرة المستشارين السفيرة روزاليندا مارسيدن (ست البركاوي) رغم مواقفها المعلنة المؤيدة لبعض الأطراف السودانية ضد أخرى! فهل يمكن أن يكون مثل هذا التعيين ممثلاً بأي حال لحياد الأمم المتحدة ومبادئها؟ ثم انظر كيف يعمل عياناً بياناً لخدمة أجندة قوى الحرية والتغيير (أ). وانظر كيف يوظف كوادرهم في مكتبه، ودون أدنى تورع أو خجل، وانظر كيف يطالب بالأفراج عنهم وحدهم دون غيرهم من السجناء السياسيين، وانظر كيف يمجد لجان المقاومة ويصفها بأنها “عاقدةٌ العزم على مواصلة احتجاجاتها لاستعادة الثورة والدفع باتجاه الحكم المدني”. وانظر كيف ينحاز للمتظاهرين ضد الحكومة فيصفها بقمعهم ويطالبها بعدم التعرض لهم رغم إقراره في إحدى إحاطاته لمجلس الأمن أنهم لا يلتزمون السلمية جميعاً وأن هناك مجموعات منهم تلجأ للعنف. بل انظر كيف أنه صار هو الواجهة لمجموعات دولية بعينها ذات أهداف محددة تسمي نفسها أصدقاء السودان تارة والرباعية تارة والترويكا تارة أخرى. في المقابل لا تفوت تلك المجموعات أي فرصة للتعبيرعن دعمها لفولكر بالحق والباطل والثناء على التقدم الكبير الذي أحرزته يونيتامس!
أما “المبدئية ” integrity، والتي تعني أن تلتزم البعثة مبادئ الأمم المتحدة والقانون الدولي، فقد عصف بها فولكر منذ البداية ودون هوادة. إذ قبل بكل الممارسات التي قامت بها لجنة التمكين خارج القانون مثل السجن دون تهمة والمصادرات دون أمر قضائي فلم تدين الأمم المتحدة ذلك أو تعترض عليه. وقبل فولكر بتغييب المحكمة الدستورية فلم نراه يتحدث عن ذلك الا لتسجيل موقف. وسكت عن اعتقال منسوبي النظام السابق دون تهمة أو محاكمة، وسكت عن فصل القضاة والدبلوماسيين دون قرار قضائي، وسكت عن تجاهل قحت (أ) للانتخابات، وسكت عن إعلان قوى الحرية والتغيير الصريح منع خصومهم السياسيين من ممارسة حرية التنظيم والتظاهر.
ويقال مثل ذلك عن مبدأ “اشراك الجميع” inclusivity . وقد أوضح جونستون أن هذا المبدأ يعني أنه لا ينبغي للبعثة الدبلوماسية أن تقصي أي مجموعة. وتحديداً ينبغي لها أن تتعامل مع المعارضة تماماً مثلما تتعامل مع الحكومة. وبينما يجوز للبعثة إقصاء أفراد معينين بسبب أنهم مخربون spoilers فإنه لا يجوز لها أن تقصي جماعات كاملة لأي سبب من الأسباب. هذا بالطبع لا يعني أن يشارك الجميع في الحكم، إذ لابد من وجود حكام ومعارضين. لكنه يعني أن تستمع البعثة للجميع بمن فيهم من يعارض الحكم القائم. أما فولكر فقد تماهى تماماً مع أدبيات الليبراليين الجدد واعتبر أن كل من ليس من الثوار فإنه ينبغي أن يعزل ويقصي من أي حوار. ولهذا حين يقول فولكر إنه أجرى “أكثر من 110 اجتماعات تشاورية مع أكثر من 800 مشارك”، فاعلم أن هؤلاء جميعاً ممن يسمون نفسهم الثوار، ممن كانوا فعلاً في قارب الثورة أو لحقوا به بآخرى خدمة لمصالحهم. وهكذا أقصى فولكر الغالبية العظمى من السودانيين ممن لا يروقهم توصيف الثوريين أو الديسمبريين. ويكون بذلك قد استبعد أكثر القوى السياسية وجوداً واوسعها انتشاراً وأكبرها جماهيرا، بل أعلن فولكر أن المؤتمر الوطني حزب “محلول” ـ في تنكر واضح لمبادئ الأمم المتحدة وحقوق الإنسان التي ترفض حل الأحزاب – وقرر عدم التعامل معه. وهكذا أقر بعظمة لسانه أنه لا يحترم مبدأ “إشراك الجميع”.
بسبب أنه لم يكن الشخص المناسب لقيادة هذه البعثة، مع احترامنا له وتقديرنا لمؤهلاته، وبسبب إهماله للمبادئ الجوهرية لعمل البعثات السياسية للأمم المتحدة فشل فولكر فشلاً ذريعاً. ومن ثم ارتفعت الأصوات المعارضة له وتعالت من كل صوب فشملت أطيافاً واسعة من المجتمع السوداني. اذا كان ذلك كذلك فهل يمكن لهؤلاء الساخطين على فولكر طرده وإنهاء بعثته؟ هذا ما نتناوله في مقال الغد إن شاء الله.