الحكومة السودانية تعجز عن شراء محصول القمح من المزارعين
في وقت يواجه العالم أزمة غذاء كبرى جعلت جميع الدول تعمل على توفيق أوضاعها بتكثيف الإنتاج المحلي للحبوب وفرض قيود على تصدير سلعها الغذائية المحلية، تكافح الحكومة السودانية، وسط صعوبات مالية بالغة وشح في الإيرادات العامة، من أجل تدبير المال اللازم لشراء القمح المحلي بالسعر التشجيعي الذي حددته بنفسها بواقع 43000 جنيه سوداني (75 دولاراً) للجوال زنة 100 كيلوغرام.
مأزق الحكومة
أمام التزاماتها السابقة، وجدت الحكومة السودانية نفسها في مأزق حقيقي بسبب الصعوبات التي تواجهها في توفير المال اللازم لشراء القمح المحلي، في ظل أضرار بالغة لحقت بالمزارعين تهدد بدخولهم السجن وتعرض المحصول للضياع عبر التلف والتهريب، مع تهديد معظم المزارعين بالتوقف عن زراعة القمح في الموسم المقبل في كل من الشمالية والجزيرة.
وبينما حمّل المزارعون وزارة المالية مسؤولية ضياع إنتاج القمح بسبب تأخير الشراء، تبادل مسؤولون اللوم حول أسباب عدم توافر التمويل ما بين وزارتي المالية والزراعة وإدارة مشروع الجزيرة، أكبر المشاريع المروية في أفريقيا بمساحة تقارب 2 مليون فدان.
في الأثناء، شهدت أسعار القمح تدنياً ملحوظاً وصل إلى نحو 27000 جنيه سوداني (47 دولاراً) للجوال، ما دفع مزارعين إلى البيع اضطراراً بخسارة كبيرة للوفاء بالتزامات مديونياتهم وتوفير حاجات عملية الحصاد بحدّ ذاتها، ولجأ آخرون إلى تخزين إنتاجهم في ظروف خطيرة غير مؤاتية داخل فناء منازلهم، على الرغم من تعريضه للتلف، انتظاراً لتحسن الأسعار.
أين الخطة؟
على الصعيد ذاته، اعتبر متخصصون ومحللون اقتصاديون عجز الحكومة عن توفير الأموال لشراء القمح المحلي أمراً مثيراً للاستفهام حول ما إذا كانت تملك خطة واستراتيجية للتعامل مع قضية الأمن الغذائي في ظل أزمة نقص الغذاء العالمية ضمن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية. وأشاروا إلى أن هذا العجز ستكون له مآلاته الخطيرة ليس على المنتج فحسب، بل قد يتم تدمير قدرات المزارع على الزراعة مستقبلاً، بخاصة أن البلاد تواجه عجزاً في إنتاج القمح، كما يسمح للشركات بالتحكم في المنتج وفتح أبواب التهريب لهذه السلعة الاستراتيجية.
من جانبه، أقرّ وزير الزراعة والموارد الطبيعية أبو بكر البشرى، بعجز الحكومة وتسببها في تأخير شراء القمح من المنتجين، بسبب صعوبة توفير الأموال المطلوبة، مشيراً إلى أنه في إطار التزام وزارة المالية شراء القمح بالسعر المحدد من قبل الحكومة، عقد اجتماع شامل نهاية الأسبوع الماضي ضم وزيري المالية والزراعة ومحافظ مشروع الجزيرة، والجهات الأخرى ذات الصلة، لحل مسألة توفير الأموال المطلوبة لشراء محصول القمح من المزارعين بأسرع ما يمكن.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البشرى أكد أن وزارة المالية أصدرت توجيهات عاجلة لمحافظ البنك المركزي في شأن توفير الأموال المطلوبة للمخزون الاستراتيجي لشراء القمح من المنتجين، مناشداً المزارعين التحلي بالصبر إلى حين توفير الأموال.
وأبدى مدير عام مشروع الجزيرة عمر مرزوق مخاوفه من ضياع وتهريب نحو 3 ملايين جوال من القمح بالمشروع، بسبب العجز عن توفير الأموال اللازمة لشراء المحصول من المنتجين وبناء احتياطي يقلل فاتورة استيراده، مؤكداً حق المزارع وحريته في التصرف بإنتاجه وبيع محصوله في السوق الحرة.
اشتراطات جديدة
من جهتهم، اتهم المزارعون الحكومة بالتنصل من التزاماتها التي قطعتها في وقت سابق بشراء القمح بالسعر التشجيعي، وشرع كثيرون منهم في تخزين القمح في أفنية منازلهم بطريقة عشوائية غير آمنة، بخاصة أن موسم الأمطار على الأبواب، ما يجعل المحصول معرضاً للتلف نتيجة الغبار والمطر والشمس، انتظاراً لتحسن الأسعار، وتفادياً للخسائر التي تنتظرهم.
وقال عبد الجليل الأمين، أحد المزارعين في مشروع الجزيرة إن عدم وفاء الحكومة بتعهدها شراء القمح وضعهم أمام خيارات كلها مرّة، فإما البيع بأسعار بخسة تعرضهم لخسائر جمة، بالتالي العجز عن سداد المديونيات التي يغرق فيها معظم مزارعي المشروع، وهي عبارة عن قروض بنكية لتأمين مدخلات الإنتاج للزراعة حرروا مقابلها شيكات، ما جعلهم مهددين بالسجن، أو الاحتفاظ بالقمح مخزناً في ظروف غير ملائمة ما يعرضه للتلف والضياع.
لاحقاً وبعد طول تعثر، كشف المهندس عمر مرزوق، محافظ مشروع الجزيرة، عن اتفاق على تدخل البنك الزراعي، اعتباراً من 26 مايو (أيار) الحالي، لشراء القمح من المزارعين بالسعر التشجيعي المعلن، إلى جانب تسلم إدارة مشروع الجزيرة قمح التكلفة من المزارعين وتوفير التقاوي للموسم الجديد.
لكن المزارعين يقولون إن الحكومة وضعت هذه المرة شروطاً رفضوها باعتبارها تعجيزية ومتعسفة ستدفع كثيرين منهم إلى السجون، لأنها تضطرهم إلى بيع المتبقي من المحصول بسعر السوق الحالي الذي لا يتجاوز 27000 جنيهاً (47 دولاراً)، مستنكرين تبرير الحكومة تلك الشروط باستخدامها أموال المودعين في عمليات الشراء، وليس عبر خزانة وزارة المالية.
وكشف مزارعون تحدثوا إلى “اندبندنت عربية” أن من بين الشروط والمعايير التي وضعتها لجنة شكلت لهذا الغرض، استيفاء سداد المديونيات السابقة على المزارع، إلى جانب سداد رسوم الولاية والمحلية، وتعبئة المنتج في جوالات بلاستيكية جديدة مكتملة الوزن، وأن يكون من إنتاج الموسم الحالي مع خضوعه للفحص. وشملت الشروط أيضاً إحكام خياطة كل جوال بما لا يقل عن 14 غرزة، والتسليم في المطاحن.
واستهجن المزارع حمدان أبو الريس الشروط والمعايير الجديدة لشراء القمح، ووصفها بأنها نوع من التعقيد وتبرير الفشل، كما أنها تعجيزية وترتب على المزارع مزيداً من الأعباء مثل رسوم الترحيل إلى النقاط المحددة للتسليم، وكذلك رسوم الفحص وإعادة الخياطة، متسائلاً، “المزارعون درجوا تاريخياً على اتباع طرق معينة معروفة ومقبولة من الحكومة والتجار، فما الذي استجد؟”.
تحذير من ضياع القمح
في السياق، أكد الأكاديمي والمحلل الاقتصادي محمد الناير أنه من دون تدخل الحكومة لشراء القمح المحلي سيضيع المحصول ويذهب إلى أيدي التجار أو يتم تهريبه، فضلاً عن أن تدني الأسعار سيؤدي إلى خسائر كبيرة للمزارعين قد تدفعهم إلى العزوف عن زراعة القمح مستقبلاً، ما يشكل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي في ظل الأوضاع العالمية الراهنة.
ونوّه الناير إلى أن ضياع محصول القمح هذا العام سيضطر الحكومة مستقبلاً إلى البحث عن عملات صعبة ربما لا يكون ميسوراً تدبيرها، وحتى لو نجحت في توفيرها، فقد لا تجد وقتها قمحاً معروضاً للبيع في الأسواق العالمية لأن معظم الدول أوقفت تصديره. وأضاف، “يبدو أن الحكومة السودانية لا تدرك حجم المخاطر التي تحيط بالعالم الآن، أو تلك التي تحيط بالسودان من أزمات غذائية متوقعة تبدو إشاراتها جلية للعيان”.
وأشار المحلل الاقتصادي إلى أن تقرير بنك السودان لعام 2021 كشف عن أن واردات البلاد من القمح والدقيق تجاوزت 500 مليون دولار، يأتي نصفها من دولتي روسيا ورومانيا، بينما بلغ حجم الاستيراد من روسيا وحدها نحو 14 مليون دولار، أي ما يعادل نحو ثلث الكميات المستوردة خلال العام، الأمر الذي يؤكد أن الواقع العالمي الراهن سيلقي بظلاله الكثيفة على الوضع في السودان.
وأوضح الناير، “من الجيد أن الأزمة العالمية تصادفت مع توقيت موسم حصاد القمح في السودان، وكنا قد نصحنا الحكومة قبل أكثر من شهرين بالتدخل لشراء كل المنتج المحلي بأي سعر، ما دام الشراء بالعملة المحلية، حتى لا يضيع المحصول، ومن أجل بناء مخزون استراتيجي لمدة 4 أشهر على الأقل، واستخدام المكننة لتقليل الهدر الناتج من الحصاد اليدوي التقليدي المقدر بنحو 25 في المئة.
الناير أبدى دهشته من كون “الحكومة السودانية تتصرف وكأن الأمر لا يعنيها في شيء، على الرغم من النصائح التي قدمت لها بتشكيل فريق اقتصادي لمتابعة مشاريع السلع الاستراتيجية وتأمين مخزون استراتيجي منها، وعلى رأسها القمح، فضلاً عن متابعة موضوع الموسم الزراعي في ما يخص إنتاج الحبوب بصفة عامة”.
حظر وتحذير أممي
في الولاية الشمالية، أصدر الوالي المكلف الباقر أحمد علي، أمر طوارئ بحظر نقل محصول القمح المنتج محلياً إلى خارج الولاية، ونقل أي كمية في العموم إلا بإذن مكتوب من وزارة الإنتاج والموارد الاقتصادية، باستثناء الكمية المخصصة للانتفاع الشخصي. وحذر الأمر المخالفين من التعرض للمساءلة القانونية وعقوبات قانون الطوارئ أو أي قانون آخر، إضافة إلى عقوبتي السجن مدة لا تتجاوز عشرة أعوام وغرامة لا تقل عن مئة ألف جنيه مع مصادرة الكميات المضبوطة ووسيلة النقل.
قبل أيام، أطلق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تحذيرات من بداية تدهور الوضع في السودان مع تزايد الحاجات الإنسانية بشكل كبير في ظل الأزمة السياسية التي تعانيها البلاد بعد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 على حد وصفه. وتوقع التقرير الصادر عن المكتب الأممي في السودان، أن يواجه نحو 18 مليون شخص في أنحاء البلاد خطر الجوع بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل، وفق التقييم المشترك لبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.
وتتراوح الفجوة بين إنتاج القمح واستهلاكه في السودان، ما بين 60 إلى 70 في المئة، إذ يبلع الاستهلاك السنوي نحو 2.4 مليون طن بينما لا يتجاوز الإنتاج المحلي الـ700 ألف طن تقريباً، يغطي ما نسبته 30 إلى 40 في المئة من الاستهلاك، بينما تجري تغطية الفجوة عبر الاستيراد.