د حيدر معتصم يكتب : الدولة..مؤسسات و أدوار..(5) 

حوارات حول الأفكار…(103)

د حيدر معتصم يكتب : الدولة..مؤسسات و أدوار..(5)

في إطار البحث عن حلول لأزماتنا المركبة و المتراكمة قلنا في مقالات سابقة أن البدايات الصحيحة دائما ما تؤدي لنهايات صحيحة وإيجاد حلول لتلك الأزمات و العكس صحيح، ، و قلنا أن التوصيف السليم للأزمة في السودان هي أنها أزمة أخلاقية و فكرية بإمتياز.. و قلنا أن الأزمة الأخلاقية هي نتاج طبيعي لتمدد الولاءات و العصبيات القبلية و الطائفية و الأيدلوجية على حساب الولاء الوطني، أما الأزمة الفكرية فهي نتاج للتخلف السياسي الناتج عن عدم وجود تراكم معرفي سياسي بسبب إنقطاع التجربة عن إمتداداتها التاريخية.
لم يراودني يوما أدني الشك في أن النشأة و البدايات الأولى لما يسمى بالأحزاب والجماعات و التنظيمات السياسية السودانية كانت خاطئة و الأمر لا يحتاج لكثير عناء لإثباته  لأن الواقع السياسي التاريخي والراهن كله تعبير صريح يحدث عن ذلك الخطأ و عن وهن البدايات وإنحرافها عن جادة الطريق و يمكن إثبات ذلك علمياً و عملياً لمن لا يوافقنا الرأي بتحرير و تعريف مصطلح.. حزب سياسي.. إذن فما هو الحزب و كيف يكون و ماهي الوظائف و المهام الخاصة التي يضطلع بها  و أين تلتقي تلك المهام وأين تتقاطع مع مهام و وظائف مؤسسات المجتمع المدني و الأهلي و مؤسسات الدولة الأخرى و المؤسسات السيادية الوطنية، و حينها فقط ستدرك حجم المأساة و حجم الجريمة التي إرتكبتها تلك التنظيمات الفارغة في حق الوطن و المواطن بالعبث بتلك المؤسسات و لا أعرف لماذا كلما أحدث نفسي بالكتابة عن  ما تسمى بالأحزاب السياسية يقفز لذاكرتي مباشرة قول الشاعر  :
لعمرك ماضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
وهذا تعبير حي من حيث الممارسة عن مستوى التدني الأخلاقي و الفكري الذي قدمته التنظيمات السياسية عياناً بيانا من  خلال تجاربها البائسة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال توصيفها بإعتبار أنها تجارب ناضجة في الحكم تلك التي ظلت تقدمها  يوما بعد يوم منذ فجر الإستقلال أو قبله حتى، و قد عرفنا الأحزاب السياسية و رأيناها حول العالم و هي تلهث خلف مواطنها و تستجديه و تتسابق من أجل خدمته و عرفناها تميز بوعي بين مفهوم الحكومة و مفهوم  الدولة و مفهوم الوطن و عرفناها تنتقد الحكومة و ربما تكرهها و لكنها في الوقت نفسه تقف معها  لتساهم بجد و إخلاص في بناء دولها و تتسابق  في كل مايعبر عن حبها لأوطانها و شعوبها و إستعدادها لبذل الغالي و النفيس للدفاع عن الوطن و إسعاد مواطنه، و بالمقابل فمن عجائب القدر و ما يسمي بالسياسية في بلادي و عبر تجربتنا التاريخية في السودان رأينا أحزاب لا تميز بين ماهي الحكومة و ماهي الدولة و ما هو الوطن و رأينا أحزابنا هداها الله تستميت في الدفاع عن السلطة أو الحكومة و تهدم و تدمر الدولة من أجل الوصول إلى أو البقاء في السلطة أو الحكومة أطول فترة ممكنة أما الوطن و مقدراته و ثرواته الحضارية و المادية فهي عرضة للنهب و الإذدراء طالما أنها تعمل على إبقائهم في السلطة أو الحكومة و لابواكي، وهكذا تعبر تجربتنا السياسية بصدق عن شعار أحزابنا المحترمة المفضل و هو.. الدولة و الوطن و المواطن في خدمة الحكومة.. بعكس تماما  لما هو قائم و متعارف عليه في الدول ذات الديمقراطيات الراسخة و المحترمة.
إن أكثر مايعبر عن خطل أحزابنا
و خوائها الفكري و الأخلاقي هو عدم إدراكها من حيث الممارسة لمفهوم الحرية الذي تقوم عليه فلسفة الدولة نفسها الذي يعطي حق إختيار الدستور و نوع الحكم للشعب عبر إجراءات و مؤسسات تُنشأ خصيصا لتلك المهام فأحزابنا هداها الله غير مدركة لتلك القيم جيداً و نتيجة لتخلفها السياسي تغض الطرف و تدعي فرض الوصايا على الشعب عن طريق صراع صفري عدمي يقسم البلاد لفريقين للملاكمة و ليس للسياسة تنقسم البلاد على إثرهما للإصطفاف عبثي بين مؤيد لهذا الفريق أو ذاك في مباراة ظل ضحيتها دوما الوطن و أمنه القومي و لا بواكي.
مايقارب السبع عقود هي عمر السودان منذ الإستقلال و مازال هم المواطن هو جرعة ماء تروي ظمأه أم قطعة خبز تسد جوعه أو قارورة محلول وريدي تنقذ حياته أو إحساس بالأمان و هو يمشي في الطريق و السودان يرقد على كم هائل من الثروات الطبيعية و البشرية وهذا حاله فلا تحدثني إذن عن الأخلاق السياسية و لا تحدثني عن الفكر و الوعي السياسي لما لايتعدي الخمسمائة رجل من الساسة و الشعراء و الإعلاميين  منذ الإستقلال و حتى الآن هم الذين صنعوا هذا الواقع البائس و هم الذين علموا الناس أن السياسة خلاف و ليس إختلاف و هم الذين علموا الناس أن يكرهوا بعضهم البعض و هم الذين علموا إنسان السودان أن أقرب طريق لبناء الوطن هو تدميره و هم الذين علموا الناس أن السياسة عبارة عن شعارات براقة  هي التي ستبني الوطن و هم الذين علموا الناس أن يحتفوا و يسعدوا حينما يحاصر الوطن و هم الذين علمو الناس أن يحزنوا حينما ينجح منافسيهم و أن يسعدوا و يفرحوا حينما يفشل منافسيهم حتى و إن جاء ذلك على حساب الوطن و إستقراره و هم الذين علموا الناس أن يفرحوا حينما يخسر الجيش معركة و هكذا فالقائمة تطول في السباق على ذبح الوطن من الوريد للوريد و لا بواكي.
إن أمام الجيل الحالي من القادة السياسيين فرصة نادرة لتحكيم صوت الضمير وإحداث إنحرافة من أجل الوطن و مواطنه الجريح تخرج به من ظلام التفكير الأحادي و العصبيات القبلية و الطائفية و الأيدلوجية و الجهوية إلى براحات العقل الجمعي الواعي والأخلاق السياسية الراسخة و الفكر الوطني المتجرد و حينها سيكتشف هؤلاء القادة أن الوطن يسع الجميع و لا يمكن أن يبنيه إلا الجميع و سيعرفون حينها أن الوطن يسع الفكر الإشتراكي و الليبرالي و القومي العربي و الأفريقي و الإسلامي سيكتشفون حينها أن أقرب طريق لصناعة الإستقرار السياسي وبناء الدولة هو التنمية البشرية و الإقتصادية و التعمير الداعم لإحتياجات المواطن الذي أثقلت كاهله متطلبات الحياة في أبسط إحتياجاتها و أمنياتها و لابد للأحزاب إذا كانت تريد خيراً للوطن و أهله فعليها  أن تتحول بالعملية السياسية من مربع الخلاف إلى مربع الإختلاف و أن تضع بشكل صارم الإختلاف السياسي في إطاره الأخلاقي و الفكري لا التحريضي و حينها فقط سيدخل هذا الجيل التاريخ من أوسع أبوابه و إلا فإن التاريخ لا يرحم..
لعمرك ماضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
…. نواصل
حيدر معتصم 2يونيو 2022

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...