تسارع أزمة التضخم في الشرق الأوسط بظل ارتفاع الفائدة
في وقت يسجل فيه التضخم أرقاماً قياسية في دول منطقة الشرق الأوسط، كشف “البنك الدولي” في تقرير حديث، عن 4 سياسات من الممكن أن تعالج موجة التضخم التي تُعد الأعلى خلال العقود الأخيرة والتي أثرت بالفعل على الشريحة المنخفضة الدخل والتي تحول جزء كبير منها إلى الفقر المدقع مع سلسلة الأزمات الحالية التي تضرب الاقتصاد العالمي.
والتضخم هو الزيادة العامة والمتواصلة لمستوى الأسعار في اقتصاد ما. والمقياس الذي يشيع استخدامه للتضخم هو مؤشر أسعار المستهلكين الذي يقيس أسعار سلة تمثيلية من السلع والخدمات التي تشتريها الأسرة العادية. وتحتاج كل البلدان أشد الحاجة إلى اتخاذ قرارات سياسات صائبة من شأنها تيسير النمو الاقتصادي المستدام وتقليص التضخم الذي يُؤثِّر على الفقراء أكثر من تأثيره على الأغنياء.
ووفق إحصاء أعدته “اندبندنت عربية”، تصدرت السودان قائمة دول الشرق الأوسط في أعلى معدل تضخم عند مستوى 359 في المئة، وفق البيانات الرسمية، يليها لبنان حيث بلغ معدل التضخم نحو 211 في المئة، ثم سوريا التي سجلت معدل تضخم عند مستوى 139 في المئة. وحلت تركيا في المركز الرابع بمعدل تضخم بلغ مستوى 78.6 في المئة، وأخيراً جاءت إيران التي ارتفع معدل التضخم بها إلى مستوى 52.5 في المئة.
4 سياسات تبدأ بتحسين جودة الإنفاق العام
ويرى نادر محمد، المدير الإقليمي للنمو العادل والتمويل والمؤسسات في “البنك الدولي”، أن 4 سياسات يمكن أن تعالج ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض معدلات النمو إلى جانب دعم الفئات الأقل دخلاً، أولها تحسين جودة الإنفاق العام، فكثير من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاسيما المستورِدة للنفط منها، تثقل كاهلها ديون عامة ضخمة وتعاني من ضيق الحيز المتاح للإنفاق في إطار ماليتها العامة، لكن لديها احتياجات للإنفاق مثل توسيع نطاق الأنظمة الحديثة للحماية الاجتماعية والاستثمار في تدابير التكيّف مع تغير المناخ. ويتعين عليها الارتقاء بجودة النفقات العامة الجارية وإعادة توجيهها.
وفي الوقت الحالي، تُهيمن أجور العاملين في القطاع العام، وأنظمة الدعم غير الموجَّهة لفئات بعينها، وأعباء خدمة الديون على الإنفاق العام، وتُسهِم جميعاً في أوجه الجمود في الموازنة. ومع أنه قد لا يوجد خيار يُذكَر أمام البلدان المعنية في الأمد القصير، فإنه يجب عليها تحسين جودة إنفاقها عن طريق جعل الإنفاق العام أكثر تركيزاً على تحسين الأداء، وخفض أنظمة دعم الطاقة غير المُوجَّهة إلى فئات بعينها، مع إصلاح البنية التحتية والشركات المملوكة للدولة، إضافةً إلى زيادة كفاءة إدارة الديون من أجل تقليص تكاليف خدمة الديون (على سبيل المثال من خلال تقليل الاعتماد على التمويل قصير الأجل المرتفع التكلفة).
ويساعد البنك الدولي مختلف البلدان في هذه الجهود من خلال استعراضات الإنفاق العام، وتحليلات أثر الضرائب والإنفاق الحكومي على الدخل الحقيقي، وإسداء المشورة بشأن تمويل البنية التحتية وإدارة الديون، وهو ما يجري الآن في مصر والمغرب ولبنان وغيرها.
وتتمثل السياسة الثانية، بحسب نادر محمد، في تعزيز شفافية الديون وتفادي “الديون الخفية”. وبالنسبة إلى البلدان التي تنشط في أسواق التمويل السيادي، وهو حال معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المهم عدم مفاجئة الجهات الفاعلة في الأسواق الدولية. وخاصةً في السياق السائد حالياً من ارتفاع مستويات الديون والإحجام عن تحمل المخاطر (في بلدان الأسواق الناشئة)، يجب على تلك البلدان ضمان الثقة في بيانات ديونها. وتُظهِر الخبرات العالمية أن “الديون الخفية” غالباً ما تصبح معروفة في أسوأ وقت ممكن، وذلك عندما تحدث بالفعل أزمة.
ومع أن شفافية الديون تُشكِّل تحدياً عاماً في مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن لدى المنطقة إحصاءات جيدة إلى حد ما بشأن الديون، والديون الخفية مثل ما أصبح معروفاً في بلدان كموزامبيق، لم تشهدها بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكن يجب على مختلف البلدان توخي الحذر من الالتزامات الطارئة، سواء كانت ناجمة عن ضمانات حكومية لشركات مملوكة للدولة أو مشروعات القطاع العام، أو ضمانات ضمنية كما يحدث حينما تقترض شركة مملوكة للدولة على أساس دعمٍ مُتصوَر من الحكومة، أو التزامات أخرى. ومن الأمثلة المهمة في هذا الصدد اتفاقيات شراء الكهرباء: فهي في الغالب لا يتم الإفصاح عن تفاصيلها، وتُبرَم في سياقات ضعف استرداد التكاليف، مع احتمال أن تصبح التزامات على الحكومة.
أزمة الاعتماد على طبع النقود
و تتمثل السياسة الثالثة، وفق المدير الإقليمي في “البنك الدولي”، في تفادي “هيمنة المالية العامة” والاعتماد المفرط على البنوك المركزية. وتشير هيمنة المالية العامة إلى وضعٍ يصبح من المتوقع فيه أن يتم تمويل عجز الموازنة العامة والديون الحكومية عبر زيادة عرض النقود بمعنى تمويلها من خلال “طبع النقود”. وفي الظروف العادية، تظل الديون العامة التزاماتٍ يمكن تحملها وتحت السيطرة من خلال مزيج من النمو الاقتصادي وفرض الضرائب. ولكن الصدمات والسياسات السيئة قد تدفع الديون إلى مستويات لا يمكن الاستمرار في تحملها، وتؤدي إلى توقعات أو تطلعات بأن الخزانة العامة ستعتمد على البنك المركزي. ولا يبدو هذا وضعاً جيداً، ولبنان هو أصدق مثال على هيمنة المالية العامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وليس بمقدور البنوك المركزية أن تفعل الكثير إلا من خلال احتياطياتها من النقد الأجنبي وإدارتها لأنظمة العملة والقطاع المصرفي، ولكن لا يمكنها الحفاظ على استقرار الأسعار (التحكم في التضخم) إذا أصبحت الملاذ الأخير لإقراض الحكومات. وحينما يتداعى استقرار الأسعار، تتلاشى احتياطيات النقد الأجنبي بسرعة. ولتفادي هذا الوضع، تجد البنوك المركزية أنه لا بد من اللجوء إلى تقنين النقد الأجنبي، وهي ممارسة ذات تأثير تشويهي بدرجة كبيرة لا تفعل سوى تأجيل ما هو حتمي، مثلما حدث حينما تخلفت سريلانكا عن سداد ديونها الخارجية للمرة الأولى في تاريخها الشهر الماضي.
ويدعو بعض محافظي البنوك المركزية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى التحرك على وجه السرعة لإجراء إصلاحات هيكلية. وهذا أمر مفهوم ومفروغ منه. فإذا ساءت أوضاع المالية العامة، ولم يبدأ إجراء إصلاحات هيكلية، فإن أدوات البنوك المركزية تصبح غير مجدية.
حماية الفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً
أما السياسة الرابعة، يضيف نادر محمد، فتتعلق بحماية الفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً. ويدفع ارتفاع معدلات التضخم بالفعل الأسر في أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو الفقر لأن الإنفاق على الغذاء يشكل جزءاً كبيراً من ميزانيات تلك الأسر. وتبلغ نسبة المواد الغذائية من الموازنة العامة أكثر من 30 في المئة في جيبوتي والجزائر والمغرب ومصر.
ومع أن بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تدرس ما يمكنها اتخاذه من تدابير لإعادة تخصيص النفقات، فإن البعض الآخر بدأ بالفعل تنفيذ برامج لإصلاح الدعم يتم فيها اتخاذ آليات تعويض موجَّهة لحماية الفقراء من غلاء أسعار الغذاء والطاقة. فمصر، على سبيل المثال، أعلنت في مارس (آذار) 2022 عن إنفاق إضافي قدره 130 مليار جنيه (6.8 مليار دولار)، تعادل نحو 1.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في السنة المالية 2023، لزيادة أجور القطاع العام والمعاشات، وكذلك توسيع برنامج “تكافل وكرامة” لإضافة 450 ألف أسرة إلى المنتفعين من هذه البرامج. وتحتاج هذه البرامج إلى إجراء تحليلات لضمان الوصول إلى فئات السكان المستهدفة، وإعطائها القدر الكافي من الدعم.
وعلى الرغم من كل الأزمات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي قد تؤثِّر على ما تحقَّق من منجزات التنمية في العقد الماضي، فإن انتهاج سياسات جيدة يمكن أن يساعد على تحسين الأوضاع. ومن الضروري لبلوغ هذه الغاية، الحد من برامج الدعم الشامل واستخدام أنظمة الحماية الاجتماعية القائمة على التحويلات النقدية. وبالنسبة لشفافية البيانات بشأن جودة الإنفاق، فيُعد هذا أمراً حيوياً أيضاً. والبنك الدولي على استعداد لمساعدة الحكومات التي يتعين عليها اتخاذ هذه القرارات الصعبة من خلال ما يقدمه من أنشطة تحليلية، وتمويل العمليات، والدعم على مستوى السياسات.