د. هيثم مكاوي يكتب: من كرسي ( التكم) الي كرسي الاستاذية
في قرية صغيرة لا توجد علي الخريطة الي يومنا هذا ولد والدي في عام ١٩٤٥ في اي شهر لا احد يعلم لكنه ولد يوم جمعة سمي عبد القادر تيمنا بعبد القادر الجيلاني
حينها كان عمي محمد يكبر والدي ب ١٤ عاما.
عندما بلغ والدي الخامسة قرر أخواله استصلاح اراضي زراعية جديدة … في ذلك الوقت كان لكل شخص في المجتمع نصيب من العمل.
كان نصيب والدي من ذلك الاستصلاح ان يكون صبي التكم …
فقبل شروق الشمس بقليل كان هنالك طفل صغير يقود ثورا ضخما بالكاد يكاد راس الطفل ان يبلغ ركبتي الثور رغم ذلك كان الثور ياتي صاغرا او ربما راضيا ليربط في الساقية.
و بعدها يجلس ذلك الصبي علي كرسي خشبي بالكاد يتسع لجسده (التكم) ليكمل ما تبقي من نوم …
اذا توقف الثور توقفت الساقبة ليستيقظ الطفل ليضرب الثور ليتحرك.
كان الثور ينتقم فيضربه بذيله ..
تستمر معركة الضرب بين الطفل و الثور لفترة وجيزة و من بعدها يتوقف كلاهما عن ضرب الاخر ليعود السلام و يستمر العمل.
اذا ما ارتفعت الشمس قليلا كان والدي يخلع ملابسه و يضعها في كرسيه الخشبي و يذهب ليلعب في ماء الجدول وحيدا،
بتركه ملابسه علي كرسيه كان يظن بانه قد خدع الثور
كان الثور يتظاهر بان الحيلة قد انطوت عليه و يستمر في الدوران مانحا ذلك الطفل مساحة للعب
حتي اذا ما جاء وقت الافطار احضرت عمتي سعدة وجبة الافطار لقيمات قليلة تسد جوعه و تجلس لتسامره قليلا تندب حظها و حظه من ثم تخبره ان الله سيغير كل هذا ذات يوم وانه الجيلاني مبروك و سيصل الي مكان لم يصله احد من ابناء القرية.
تخبره انه سيكون مثل اخيها محمد .. عمي محمد
عمي كان قد تلقي نصيبا من التعليم فتفوق في الاولية و اصبح استاذا في شرق السودان…
و رغم صغر سنه اختار له الرجل الابيض مهمة صعبة و هي ان يكون أستاذ متنقلا فكان يحمل لوحه و طباشيره و اقلامه في بعير يتبع البجا اين ما ارتحلوا …
كان عمي على ظهر الجمل يتذكر والدي الذي يجلس خلف الثور … و كان ابي يتذكر عمي محمد او كما كان يناديه اند.
عمي محمد كان مثل النور في ضيائه شامخ هو كنخل بلادي كالغيث اين ما حل اثمر كيف لا و هو مؤسس مدرسة العفاض الاولية مع عمي الشيخ الراحل مكاوي محمد قيلي …
و بعدها انضم لمطافي مشروع الجزيرة ريما هو قدر اسرتنا ان نمارس مهن متعددة .
كانت عمتي تتمني ان تري والدي استاذا مثل اخيه محمد.
لكن تعرض جدة والدي لابيه لكسر الزمها الفراش جعل من ابي و جدتي أسرى ظروفها المرضية.
جدة والدي كانت تسمي دامبيسة و اهل الشمال يعرفون ما يعني الاسم.
ربما كان اسمها سبب رقادها بعد ان تعرضت لكسر و لم تعد قادرة علي الحراك.
فقد كانت جميلة ممتلئة قليلا او ربما كثيرا و هي سيدة في قومها
هذا ما اخبرني عنها والدي.
انا لم اراها كما لم يري والدي جده
فقد توفي جدي في فشودة … فقد كان تاجرا يحمل محاصيل الشمال الي الجنوب و يعود بمحاصيل الجنوب الي الشمال و لم يكن يتاجر رقيق.
ذات يوم هاجم نمر قافلة جدي و كان معه بندقية قتل جد ابي النمر لكن اصابه النمر في كتفه بجرح عولج بالطرق البدائية و من ثم تم كويه و من ثم تعرض الجرح للتعفن و من ثم اصاب جد ابي تسمم الدم و اسلم جدي روحه في ارض الجنوب.
نعم جد ابي مدفون في اراض غير سودانية اليوم.
عاد التجار يحملون تجارة جدي الاكبر الاخيرة و خبر وفاته.
تزوجت جدة والدي عم جدي الذي كان شيخا يعلم القران.
جدي انا كان يحفظ القران و يشرح لي معني كثير من الايات.
جدي قرر ان لا يزرع و ان يلتحق بوظيفة حكومية فاختار له المستعمر ان يكون عامل دريسة بالسكة حديد .
و عمال الدريسة هم العمال الذين يصلحون طريق القطار
كان عملت شاقا اصاب جدي بالام ظهر لازمته حتي وفاته.
اصبح عمر والدي الان ٧ سنوات
و كان هذا حاله حتي قرر عمي و جدي تغيير هذا الواقع و انه لا خيار الا اخراج ابي من القرية.
و من ثم تم وضع خطة معقدة علي بساطتها زوج عمتي مريم علي حميد رحمها الله سيقوم بزيارة القرية و سيصطحب ابي الي بورتسودان حيث يلتقيه محمد و جدي و يبدا الدراسة.
وافق زوج عمتي علي الانضمام للخطة و انضمت عمتي مريم ايضا .. عمتي سعدة عرفت بالخطة عندما وصل علي الي القرية طارت سعيدة بالخبر اخيرا سيطلق سراح والدي ..
و في يوم تنفيذ الخطة و عند سماع صوت الباخرة و هي تقترب من الميناء ستذهب عمتي لاحضار ابي …
و هذا ما حدث ركضت و وجدته وحيدا في الجدول سحبته دون ملابس و هي تصيح ربنا فكاك ربنا حلاك
تركض و هي تسحبه و هو يخبرها ان لم يعد سيكون عقابه وخيما …
تستمر في الركض و هو من ورائها يرجوها ان يحضر ملابسه يا سعده انا عريان …
و لا تتوقف كلاهما يركض ..
الثور يزيد من سرعته فيستمر الماء و كانه يريد مساعدة صديقه في الهروب …
باب صغير من الخشب في منزل من الطين يفتح بسرعة و تدخل به الي منزلهم و قلبها يكاد يتوقف من الركض و والدي لا يدرك ما يحدث و يخشي العقاب الذي ينتظره
جدتي رحمها الله تستقبله و من ثم تبدا مهمة اعداد ابي للسفر حمام سريع يليه الباسه الجلابية و من ثم لف عمة صغيرة علي راسه …
تنادي جدتي علي ابن اخيها عثمان مدني و تخبره ان يحمل والدي علي حماره الي الميناء و يسلمه لعلي حميد في يده و ان لا يتوقف لاي سبب و ينفذ عم عثمان كل ما طلب منه دون تردد..
لم يكن جزءا من الخطة لكنه قرر مساعدة ابن عمته ايا كان الثمن … فهو ايضا يريد ان يهرب
والدي لم يفق من هول الصدمة فكل شيء كان سريعا
مازالت قبلات جدتي تترك حرارتها في قلبه و هي تخبره انها حصنته باسماء الله و ايات الله يحميه بجناح جبريل الذي لا ينكسر ولا يلين.
وهو يدخل الي ميناء القرية
الناس كثر و هو بينهم كالغريب لكن رؤية عم علي تشعره بالسعادة و الراحة
القلق يداهم علي و يخاف ان تنكشف الخطة و يصبح الجميع في ورطة
صوت الباخرة ما زال بعيدا لكن تاتي الباخرة سريعا و يدخل الجميع.. يطلب علي من والدي ان لا يتحرك و لا يتحدث مع احد حتي تتحرك الباخرة
و ما ان تحركت الباخرة يحس علي بنعاس شديد فقد استهلكت العملية كل قطرة ادرنالين في جسده و يقرر النوم لكن كيف ينام و عبد القادر كثير الحركة..
فيخلع عمته و يربط طرفها في وسط ابي و من ثم يربط الطرف الاخر بيده ليدع للطفل مساحة حركة امنة …
الجيلاني عبد القادر والدي عندها كان ينظر الي الماء و دخان البابور مندهشا. استغرقت الدهشة والدي يوما و ليلة هو زمن الرحلة … استيقظ صباحا ليري ماء النيل و يشاهد على الشواطيء اخوة له يجلسون علي كرسي التكم
فيلوح اليهم بيديه و يلوحون هم للباخرة.
و من ثم تتوقف الباخرة في كريمة و يركب كلاهما القطار
اكاد اجزم ان والدي لم ينزل من شباك القطر و لو لوهلة
مر القطار بكثير من المحطات حتي استقر القطار بهيا.
رحلة استغرقت يومين مر خلالها بارض الشايقية ثم ارض الجعلية و من ثم الي ارض الشرق.
يسرع عمي و جدي بوالدي الي مدرسة هيا الاولية
لمقابلة الاستاذ محمد طاهر اوشيك مدير المدرسة و المعلم الوحيد في المدرسة ليصبح ابي تلميذا
كان ابي يتحدث الشايقية فقط فساله الاستاذ ان كان يعرف عدد النجوم فاخبره ابي ما بعرف لكن النجوم كثيرات و لا يمكن ان يعرف عددها شخص.
ساله ان كان يريد مصارعة الاطفال فيخبره انه لا يريد مصارعة احد و هو لا يعرف احدا ليصارعه.
الشايقي هو اسم والدي الجديد ذلك الاسم الذي منحه له مدير المدرسة للسان ابي..
سريعا ما ينتهي العام الدراسي و يحرز و الدي المركز الاول
يخبره احدهم يا الشايقي انت جيت الاول …
قال ليهم هم قالو كدا
تأتيه الاجابة بنعم …
فيرد خلاص انا الاول …
يظنها تهمة …
و يذهب الي السوق ليلاقي جدي الذي كان يعمل بجانب عمله كعامل في سكة حديد السودان كنجار ايضا …
ليجده سعيدا يا عبد القادر انت جيت الاول مبروك …
حينها ادرك ان لا عقاب و ان الامر جيد … فقرر ان يكون الاول … حتي امتحان الشهادة الاولية كان الاول
و يذهب الي ذات السوق فتنهال عليه الهدايا و العطايا
و اهم هدية كانت راديو من جدي ليسمع به الاخبار
من هيا الي بورتسودان الثانوية و من بعدها الي جامعة الخرطوم كلية الصيدلة اول دفعة صيادلة سودانين …
الشايقي يرتحل هذه المرة الي بريطانيا ليعود بالدكتوراة و من بعدها الي السودان و بعدها عندما تبدل الوضع حين انقلاب الي المملكة العربية السعودية ليعود بعدها بالاستاذية و نتوقف في زيارة لهيا و الرمال تكاد تبتلع ما تبقي من منازل سكة حديد و يجتر و الدي شريط ذكرياته
هنا كان يسكن فلان و هنا كانت المدرسة
و انا في نفسي اقول هنا كان وطن الاحلام و ارض الفرص
من خلف ثور الي كرسي استاذية و زمالات عالمية و بحوث ملئت الارض و كم كبير من الخريجين و الاستاذة
كل هذا حدث في ارض كانت ارض الفرص و الاحلام
وطن منح طفل فرصة الانتقال من كرسي الساقية الي كرسي الاستاذية.
شكرا لكل من ساهم في نجاح هذه الخطة و شكرا لشعب السودان فانا و والدي ندين لكم بكل هذا.. و شكرا للستر الانجليزي الذي حرر الكثير من اطفال بلادي…
شكرا ارض الاحلام و الفرص …
رحم الله من رحل و اطال الله في عمر والدي و من بقي.
هيثم عبد القادر مكاوي
مواطن سوداني عاطل عن الامل