كيف تغيرت الطقوس الجنائزية من الممالك القديمة إلى يومنا هذا؟

عالم من الأسرار ينطلق من فلسفة الموت والتفكير فيه ومحاولات الإجابة عن الأسئلة المتعلقة به، كل مجتمع بحسب معتقداته الخاصة، فمنهم من صاغها من معتقدات دينية، وبينهم من صاغها من معتقدات روحانية وعادات وتقاليد اجتماعية. وفي كل هذه، يجد المؤمنون بها راحة وتسليماً بقدر لا يستطيعون الإحاطة بأسراره الكاملة، لأنه يفوق التصور البشري وينزع إلى التخيلات، وغالباً إلى التمنيات بما يمكن أن يكون عليه الميت في حياته الآخرة والتشبث بها، لذلك اخترعت المجتمعات طقوساً مرتبطة بالموت تتمثل في حالة متناقضة بين الاحتفاء بالجنائز والأسى لفقدان أشخاص، كانوا قبل حين أحياء، كما تحاط بمشاعر مختلطة عند نقطة زمنية مفصلية هي الرابط بين الحياة والموت. ولأن المشاعر وحدها لا تكفي للتعبير عن هذه الحالة الغامضة، تجسد التعبير أيضاً في إقامة الطقوس وتزويدها بعناصر مادية، قد تكون موروثات الشخص أو عائلته، وقد تكون أشياء قيمة إذا كان ملكاً أو زعيماً، أو أدوات مرتبطة بنشاطه إن كان من عامة الناس. وارتبطت الطقوس الجنائزية بالحضارات القديمة وبفلسفة الموت والحياة بعد الموت، لذلك تحولت من حالات حزن وفقدان إلى حالات احتفالية وفق طقوس دينية.
وعلى الرغم من أن تقاليد وطقوس الموت باختلافاتها، تنطلق من مبدأ مشترك هو احترام وتقدير الميت بتحلق العائلة والأصدقاء والمعارف حوله، والتعبير عن الحزن الممزوج أحياناً بالطقوس الاحتفالية، فإنها تبدو غريبة في بعض المجتمعات ومألوفة في أخرى، ما بين دفن أجساد الموتى في الأرض، وهي الأكثر شيوعاً خصوصاً في الديانات السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام، وغيرها من الديانات والمعتقدات الأخرى، أو حرقها كما عند الهندوس، أو ما عرف بالدفن السماوي في الزرادشتية والبوذية. ويصل التعبير عن الحب لقريب ميت إلى درجة أخرى أكثر تطرفاً وهي أكله كما ورد عن بعض القبائل الأفريقية القديمة في مناطق متفرقة من أفريقيا جنوب الصحراء، وسط طقوس جنائزية تطغى عليها ممارسة السحر، إيماناً بأنها تضيف قوة أخرى لآكليه.
الموت مرتان
ولدى زيارة المناطق الأثرية المصرية، لاحظ العديد أن الدليل السياحي يتحدث عن كل شيء من تاريخ الفراعنة بأريحية، ولكن عندما يأتي الدور على الطقوس الجنائزية تحيط به هالة من الرهبة، ويبدأ بالتلفت يمنة ويسرة وكأنما بحديثه تتكشف الأسرار وتبدأ الأرواح التي يعتقد أنها هائمة في الهواء بالتحليق من وإلى مستقرها، ويختلف الاعتقاد عند الفراعنة عن بقية الحضارات الأخرى، بأن الحياة بعد الموت عندهم هي فرصة تعتمد على مدى اهتمام عائلة المتوفى به، ومحاولة إطالتها قبل أن يحل الموت الثاني الذي يكون نهائياً.
وما سمع كفاحاً خلال تلك الجولات كثير جداً، منه عملية تحنيط الأموات وإبراز الفراعنة في توابيت متداخلة، تعبر عنها الرسومات أو النحت على جدران الأهرامات والمعابد القديمة، بتصويرها الميت وهو يرقد على جانبه الأيسر، يعلو جسده رأس مستعار مصنوع من الحديد، وبجانبه محتوياته في الحياة، وإذا كان ملكاً توضع مقتنياته الثمينة.
تتشبث بعض المجتمعات السودانية بأضرحة الشخصيات الدينية (اندبندنت عربية – حسن حامد)
واللافت في الطقس الجنائزي الفرعوني هو “بعد لف المومياء في أقمشة كتانية مطرزة، تشيع الجنازة في موكب مهيب مكون من الأقارب والخدم يحملون الصناديق والأقمشة والأغراض، وتماثيل الآلهة الخمسة وهم، أنوبيس مرتبط بتحنيط الموتى، وأوزوريس إله الموتى، وسوكاريس وخنتمانتيس وأوب وات، ويرنم الكهنة ويطلقون البخور ويقدمون القربان، وتتبعهم النائحات المستأجرات. وهناك المتعلقات الجنائزية مثل الآنية والطعام والشراب، التي توضع إلى جانب الميت، لأنهم كانوا يعتقدون أن الميت يبعث في قبره بعد وفاته، ويستعيد حياته بعد الموت في العالم الآخر، ويمارس نشاطه من جديد بنفس احتياجاته، وتجدد له المؤن كل فترة”.
ومما ورد أيضاً “يبحر الجثمان في النيل على ظهر قارب مزين بالزهور ويتجه به نحو غروب الشمس، إلى مركز مدينة أبيدوس، ويتبعه قاربان ينقلان أقارب وأصدقاء الميت، وبعد الوصول إلى المقبرة يمارس طقس صب الماء على فم المتوفى بينما تركع أرملته أمام التابوت وتقول كلمة الوداع، ثم ينزل التابوت إلى موضعه في القبر، ومعه متعلقات الميت ثم يقفل السرداب ويشترك الجمع في وليمة جنائزية”.
آلهة بشرية
وعلى خلاف ما اعتقده المصريون القدماء من عودة الروح إلى الجسد ووجود حياة ثانية ثم موت، يعتقد العراقيون القدماء في وجود حياة أخرى دائمة بعد الموت، وثمة شبه بين الطقوس الجنائزية المصرية وفي بلاد الرافدين، بأن الملوك يدفنون في مقابر ملكية تتناسب ومقامهم ووضعهم الاجتماعي، ويدفن العامة في مقابر العامة.
في دراسة نشرتها إيمان حسين في إحدى جامعات العراق عن “الطقوس الجنائزية في بلاد وادي الرافدين خلال الألف الثالث قبل الميلاد”، قالت إنهم “يعتقدون أن الموت هو اختفاء مؤقت عن الحياة، وبعد ذلك يعود الميت إلى الحياة، ورمزوا للعلاقة بين الحياة والموت باللون الأحمر للدلالة على الحب واستمرارية الحياة”.
وأوردت أيضاً أن “الشعائر الجنائزية تقام بعد الوفاة بفترة قصيرة، إذ ترفق مع الميت الهدايا والقرابين والأسلحة والدروع والحلي، وتذبح الثيران والأغنام لتقدم إلى الآلهة في العالم الآخر، لضمان حسن معاملتهم لروح الميت، وهذا ما فعله كلكامش، والملك السومري أورنمو”.
ومن الطقوس أيضاً أن “العراقيين القدماء كانوا يسكبون الزيوت والعطور على الموتى أثناء دفنهم وكذلك إقامة ولائم جنائزية خاصة، أولاً لنيل بركة ورضا آلهة الموت وتجنب غضبها، وثانياً لاتقاء شر أرواح الموتى بعد خروجها من الجسد وهيامها في الأجواء، لما يمكن أن تسببه من أذى خصوصاً لو انقطع عنها الطعام والشراب فتخرج إلى عالم الأحياء”.
وأضافت الدراسة، “يقوم الكهنة بإلقاء التعاويذ لأن الحرمان منها يؤدي إلى صعود روح الميت إلى عالم الأحياء في هيئة شبح مؤذ. وهناك اعتقاد أن دموع الأحياء ومراثيهم توفر بعض الراحة للموتى”.
و”الخلود عند السومريين للآلهة فقط في شكل بشر ولكنها خالدة وتدير الكون، والعالم الآخر يحكمه الإله نركال وزوجته الإلهة ايرشكيكال وتساعدهما مجموعة من الآلهة الصغيرة وعدد كبير من الشياطين المحكوم عليهم بالموت ونقلهم إلى العالم السفلي”.
أموال الأشباح
أما في الحضارة الصينية، فإن الموت يعد حالة من الاضطراب في التوازن الكوني، ووفقاً لضخامة هذا التصور كان الصينيون يعدون له طقوساً ما بين التعاليم “الكونفوشيوسية” التي تدعو إلى توقير الأسلاف، وبين توجيهات الفلسفة “الطاوية” التي تنادي بالانضباط في السلوك لتحقيق الكمال، وتمثل الطقوس فيها أحد إيقاعات الكون لإعادة التوازن وتحقيق الانسجام بين قوى الخير والشر.
في جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية في بكين، كان حديث عن موقع طقوس الموت وإقامة الجنائز في الحضارة الصينية مع دينغ لونغ، وكيل كلية الدراسات الأجنبية في الجامعة، ذكر أن “الطقوس الجنائزية في الصين القديمة تتنوع بين الدفن والحرق. فدفن الميت يتم وفقاً لقوانين (فنغ شوي) التي تعنى بالتناغم مع مجال المحيط وتنظيم المسافات بين الأجسام المادية لتسمح بتدفق الطاقة الإيجابية، وتتضمن العملية دفن الهدايا والقرابين وأواني الطعام مع الميت، وتتنوع قيمة الأغراض بحسب وضعه الاجتماعي في الحياة، وتتلى التعاليم الطاوية أو البوذية، مع إشعال البخور ثم عروض الطعام”.
أما حرق الجثث، فمع ارتباطه بالحضارة البوذية، استمر في بعض المجتمعات الصينية نسبة لتزايد عدد السكان وتعقيدات الدفن، وفقاً لقوانين (فنغ شوي)، وإلزام قوانين الدولة بإيجاد مكان مخصص للدفن، بعد الطفرة التنموية واتساع الأراضي الزراعية. وأوضح أن “طقوس البوذية في منطقة التبت تشتمل على نوع آخر إضافة إلى الحرق، يعرف بالدفن السماوي، وهو رفع الجثمان إلى برج عال أو فوق الأشجار لتأكله الطيور الجارحة، فإذا أكلته كله فهذا دليل على صلاحه، وإذا تركته يعني العكس”.
ولما للنباتات والألوان من أهمية كبيرة ودلالات في الثقافة الشعبية الصينية، فإن لطقوس الموت نصيبها أيضاً، إذ تطغى الزهور البيضاء على مظاهر التشييع خلال مراسم الجنازة، إضافة لها يحضر المشيعون أموالاً في ظروف بيضاء، وإضافة إلى الأموال الحقيقية هناك أوراق نقود مزيفة قال عنها وكيل كلية الدراسات الأجنبية، “تحرق أوراق نقدية مصنوعة من نبات الخيزران أو ورق الأرز، على هيئة نقود حقيقية للاعتقاد بأنها تذهب لروح الميت لأنه سيحتاج إليها قبل الحكم عليه من قبل رب المحكمة يان وانغ”.
مدينة الموت الراقصة
وغير بعيد من هناك حيث الحضارة الهندية، اشتهر الهندوس بحرق جثمان الميت إكراماً وتقديراً له، وتعرف مدينة فاراناسي بأنها من بين سبع مدن مقدسة في الديانة الهندوسية، حيث شيد بها عدد من المحارق الخاصة بحرق جثث المتوفين، وتدعى “مدينة الموت”، وليس في هذا الاسم ما يثير الرعب، بل على العكس يعني بحسب المعتقد الهندوسي أنها مدينة احتفالية تغص بمهرجانات طقوس حرق الجنائز الراقصة، لدرجة أن نشاطها الاقتصادي تحول إلى هذه الخدمة.
وأشار مقال نشرته كلية الآثار في جامعة أسوان بعنوان “طقوس وشعائر الديانات الوضعية بين الهندوسية والبوذية والشنتوية”، إلى أن “الاحتفال بالموت عند الهندوس كبير ويمزج بين الموت والحياة، إذ يصبح الميت ضيف شرف يوضع على عربة تغطيها الزهور وتجرها الخيول إلى مكان الحرق، ويقوم المتخصصون بهذه الطقوس بغسل الميت بماء الورد ولفه بثوب محاط بأطواق الورد، ثم يغطى بأغصان جافة لتسهيل الحرق ثم يجمع الرماد المتبقي في إناء، ينثره أهله فوق مياه نهر الغانج، وهو نهر مقدس، ويعتقد أن روحه تستنسخ في جسد آخر”.
وذكر المقال أن “من الطقوس الغريبة التي تثبت ولاء الزوجة لزوجها المتوفى، هو أن يتم حرقها معه، بعد الانتهاء من حرق الميت، أولاً، لإثبات ولاء الزوجة له، وثانياً للاعتقاد أن الموت هو حالة عبور للحياة الأخرى، فسيمكنهما ذلك من العبور والاستمرار في الحياة الثانية معاً حتى ولو في أجساد أخرى”.
حناء النعش
وفي السودان، كانت ولا تزال أهرامات البجراوية في شمال السودان، مناطق جذب سياحي، وضمن مظاهرها طقوس الجنائز التي تتداخل في تفاصيلها مع طقوس الأفراح.
قال الباحث في الحضارة والتراث السوداني عباس الحاج، إن “من الذين كتبوا عن طقوس دفن الفراعنة في أهرامات البجراوية عالم الآثار والطبيب الإيطالي جوزيف فرليني، الذي استند إلى الرسومات على الآثار. وكان قد رأى مومياء الكنداكة أماني شاخيتي (إحدى ملكات حضارة كوش) على عنقريب (سرير تقليدي مصنوع من خشب الأشجار)، و(العنقريب) له دلالة عظيمة في الحضارة السودانية، ولا يزال أهل السودان ينامون عليه ويقيمون فيه أحد طقوس الزواج (الجرتق) ويحملون موتاهم فوقه”.
ويضيف الحاج، “ظهر العنقريب ضمن رسومات علم الفلك ويمثل بـ4 أنجم على شكله ومن خلفه 3 نجمات يسمين بنات نعش. وتمثيلها في الصورة الطقسية الجنائزية أن بنات الميت ينتحبن ويجرين خلف النعش المحمول في العنقريب. ولا تزال هذه العادة تحدث في بعض القرى”.
ويواصل، “تظهر رسومات أهرامات البجراوية مومياء أماني شاخيتي، وهي داخل هرمها موضوعة على العنقريب ممشطة الشعر، والمشاط عادة سودانية أفريقية، لا تزال بعض نساء السودان كبيرات السن يستخدمنه، كما وجدت آثار الحناء على أكفها وأرجلها، وهذا يدل على احتفاء ملوك تلك الفترة التاريخية بتزيين الميت ضمن الطقوس الجنائزية”. ويتابع، “من طقوس الدفن أيضاً أنه يوضع جريد النخيل مع الميت، وفي ذلك دلالة على ارتباط الإنسان بالنخيل الذي ينتشر في إقليم شمال السودان، كما أن جريد النخيل، إضافة إلى ارتباطه بدفن الموتى، ارتبط أيضاً بمناسبات الأفراح، إذ كان إلى عهد قريب يحمل في الأعراس ويلوح به حشد المحتفلين ومعهم العريس في مهرجان سير على الأرجل (سيرة) إلى النيل، والعادة ذاتها كانت لدى يهود السودان ولهم احتفال يسمى يوم الزينة، يحملون جريد النخيل ويذهبون إلى النيل”.
تشبث بالأضرحة
وفي المجتمع السوداني، كما في بعض المجتمعات في شمال أفريقيا، تتشبث بعض المجتمعات السودانية بأضرحة الشخصيات الدينية التي تسمى في المجتمع المحلي “الأولياء الصالحين” أو الشيوخ، يتم التبرك بها نتيجة لمعتقدات دينية رسختها أعراف وتقاليد اجتماعية. ومن الأضرحة الشهيرة، ضريح الإمام محمد أحمد المهدي في أم درمان وهو زعيم طائفة الأنصار، وفي شرق السودان ضريح سيدي الحسن في كسلا، وفي سنكات يرقد ضريح الشريفة مريم الميرغنية بنت السيد هاشم بن السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الطائفة الختمية في السودان ومصر وإريتريا وإثيوبيا.
يقول أوشيك علي الباحث التاريخي، “منذ وفاة الشريفة مريم الميرغنية عام 1952، يزور ضريحها أتباع الطريقة الختمية من أغلب مناطق السودان ويطلقون عليها أم الفقراء والمساكين، إذ كانت لا تتردد في مد يد العون لكل من التمس منها مسألة، حتى أطلق عليها البجاويون بلغتهم المحلية (باقدبسيت)، أي التي لا ترد سائلاً، ثم أصبحت هذه المفردة جزءاً من إنشاد النساء الديني (باقدبسيت دهون أدهرسا)، أي نسألك يا الله أن تحفظ لنا باقدبسيت، الشريفة مريم، وتجعلها ذخراً لنا”.
ويضيف الباحث التاريخي، “يقام في ضريح الشريفة مريم احتفال سنوي (حولية) لإحياء سيرتها، وتحظى هذه المناسبة بطقوس دينية تتميز بكثير من القدسية لسكان شرق السودان، وتقام للمناسبة مهرجانات احتفالية يتخللها الإنشاد الديني وسباقات الهجن”. ويواصل علي، “في الليلة الختامية للفاعلية وتسمى (ليلة المناقب)، تتبارى التجمعات الدينية القبلية في المديح والإنشاد الديني وما يخص إنجازاتها وتعديد مناقبها، أما اليوم التالي فيسمى (الوقوف)، حيث يتجمع الناس كلهم رجالاً ونساء وحتى من هم على ظهور الإبل لسماع الدعاء الذي يلقيه أحد أفراد أسرة المراغنة، حيث يعتلي منصة عالية يدعو للناس بالخير والبركة والسلام والأمان ورغد العيش”.
ويتابع، “يحرص الجميع على دخول غرفة ضريح الشريفة مريم والتبرك به، خصوصاً النساء لغرض الإنجاب، ومنهن من يجلبن معهن أطفالهن خصوصاً المرضى آملين شفاءهم، وداخل هذه الغرفة هناك صندوق توضع فيه النذور والصدقات من الزائرين”.

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...