حيدر معتصم يكتب: حوارات حول الأفكار…(114) خطأ التوصيف و أثره..(4) نماذج مختارة
التوصيف هو التعريف النظري الذي تؤسس عليه الفكرة و تنبني عليه في كل مراحلها التالية في طريقها لتصبح واقعاً فإذا صح التوصيف صحت الفكرة و صح ما بعدها من مراحل والعكس صحيح، و التوصيف هو اللغة الإصطلاحية التي يستخدمها الناس في التعبير عن الثوابت المتوافق عليها و التي ينبني عليها العقل الجمعي للشعوب و الأمم، و الحرص على دقة و سلامة توصيف المصطلحات السياسية والتشريعية في السودان هو الطريق الوحيد لتوسيع دائرة النظر التي ترتكز عليها الرؤى و التصورات و الأفكار بحيث تكون قادرة علي معالجة أزمة العصبيات القبلية و الطائفية و الأيدلوجية من خلال رؤية قومية شاملة ترتكز على الموروث الحضاري السوداني و الهوية الوطنية بإعتبار أن ذلك يمثل أحد المرتكزات الأساسية المؤدية إلي بناء دولة عصرية قادرة على إرساء دعائم البناء والإستقرار.
إن عمليات الإهتمام بالتوصيف السليم و ضبط المصطلحات في المجالات التشريعية و الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية تعد من القضايا الملحة و الأساسية التي توليها الدول المستقرة إهتماما فائقا وتُفرد لها مؤسسات بحثية متخصصة و جيوش جرارة من الكادر المؤهل و المدرب من المفكرين و الباحثين القادرين على ربط التوصيفات و المصطلحات المختلفة بالموروثات الثقافية و المكونات الحضارية للحفاظ على الهوية الوطنية المشتركة الملهمة للشعوب في فى إتجاه إرتقاء سلم التقدم والازدهار.
يحتاج السودان أولاً لجهد جبار من أجل رفع مستوى إدراك مؤسسات الدولة بأهمية دور كثير من المفاهيم المتعلقة بالتوصيف و ضبط المصطلحات في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء و توحيد مرجعيات المشروع الوطني السوداني في عمليات بناء الدولة و معالجة الكثير من المشكلات السياسية و التشريعية التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق حلم ذلك المشروع الجامع ، و كنتيجة طبيعية لغياب تلك المفاهيم المتعلقة بخطأ التوصيف المنضبط تعج الساحة السياسية و التشريعية بكثير من الفوضى في إستخدام مفاهيم خاطئة للتوصيفات والمصطلحات المختلفة التي تساهم بشكل مباشر في إحداث الإرباك و الإرتباك في ذهن المتلقي و علي المشهد السياسي و التشريعي تبعا لذلك، و يمكن أن نقدم بعض النماذج التي تعبر عن حجم المخاطر التي أحدثها و قد تحدثها مستقبلا هذه المفاهيم الخاطئة للتوصيفات المختلفة في عمليات بناء الدولة إذا لم يتم إستدراكها و معالجتها فكريا إستناداً على معيار الهوية الوطنية المشتركة.
أولاً :مفهوم الإنقلابات العسكرية :-
إذا قمنا بإجراء عملية إستفتاء وسط قيادات المكونات السياسية المختلفة عن رأيهم و مدى إيمانهم بالإنقلابات العسكرية كحل لأزمة الحكم في السودان و بديلا للديمقراطية و التداول السلمي للسلطة فمن المؤكد تماما أن النتيجة ستكون بنسبة عالية جداً لصالح الديمقراطية و الحرية، و لو قمنا بإجراء عمليات مراجعة شاملة بواسطة متخصصين وطنيين لجميع الإنقلابات العسكرية في السودان سنجد أن تلك الإنقلابات هي إنعكاس مباشر للأزمة السياسية و أن الإنقلاب نفسه لم يكن خياراً منطقيا و لكن يحدث الإنقلاب كردة فعل بدوافع الحماية من تغول طرف على طرف و محاولة سحقه و إلغائه و إخراجه من العملية السياسية برمتها بأساليب خارج إطار القانون و التشريعات التي تحكم العملية السياسية نفسها و خارج الإطار الأخلاقي للممارسة السياسية السليمة و غالبا مايسبق الإنقلاب العسكري إنتهاك للقانون وإنقلاب و عليه فيأتي الإنقلاب العسكري كردة فعل للإنقلاب القانوني و التشريعي و الأخلاقي، و اللافت في الأمر أن عملية الخروج على النظم دائما ما تتم عن طريق خلايا نائمة تبنيها التنظيمات السياسية المختلفة داخل الجيش و هذا بالطبع يعكس حجم الأزمة و يعبر بشكل صريح عن مستوى أزمة الثقة بين الأطراف السياسية السودانية، و لذلك فإن إتهام طرف لطرف بأنه إنقلابي هو توصيف خاطئ للأزمة من أجل تحقيق أهداف أيدلوجية و ليست وطنية و فيه كثير من التمويه و الخداع الذي يُمَارَسْ علي أهم طرفين في عملية الحفاظ على الوطن و سيادة القانون هما الجيش و الشعب و إستخدامهما كأدوات للصراع السياسي و الأيديولوجي المحتدم، و غالبا ما يكون موقف الجماهير ضد الطرف المُختَطِف للقوى العسكرية والأمنية بإعتبار أنها قوة سيادية تمتلك القوة المادية و تتعاطف مع الطرف المختطف للجماهير نفسها بالرغم من أن إختطاف الجماهير و الشعوب هو الأكثر خطراً و تأثيراً على ضمان سير العملية السياسية في الإتجاه الصحيح بإعتبار أن الشعوب هي الضامن و الرقيب و هي صاحبة المصلحة و الحظ الأوفر في عمليات بناء الدولة وصناعة الإستقرار، فإذا كانت الأحزاب و المكونات السياسية تقف حقاً مع أشواق و تطلعات الشعب بشكل جدي فعليها الإبتعاد عن ممارسة السياسة من خلال الأجندة التكتيكية المؤقتة التي تخدم مصالحها الحزبية و الأيدلوجية و أن تلتزم بممارس السياسة بأخلاق الأجندة الوطنية والتوافق علي ميثاق شرف بالإبتعاد عن إنتهاك حرمات المجتمع و الجيش و الأجهزة الأمنية و إستخدامهما كأدوات في صراعهم التاريخي و تركهما للقيام بأدوارهما و سلطاتهما المفترضة في بناء الدولة بعيداً عن التغول السياسي و الأيديولوجي و لايمكن أن يكون ذلك واقعاً معاشا إلا بتغيير مفهوم توصيف الإنقلابات العسكرية بشكل يتسق مع قيم النسيج الاجتماعي الجمعي للشعب و مكوناته الحضارية المنبثقة من الهوية الثقافية المشتركة للسودان وفقاً للسلطات الممنوحة للجيش كسلطة سيادية لا علاقة لها بالسياسة إلا في إطار الأمن القومي للبلاد .
ثانيا : مفهوم الأیدلوجیا :- الایدلوجیا هی مجموعة من الرؤي و التصورات التی یبدعها الإنسان في طريق بحثه عن أفكار مثالية نموذجية لإدارة الشأن العام و البحث عن حیاة افضل، ولذلك فإن الأیدلوجیا هی إجتهاد بشری متحرك فیه الخطأ وفیه الصواب وعلیه فمن المجحف جداً أن نصف فکرة معینة أو أیدلوجیا معينة بأنها خطأً مطلقاً و ليس فيها ما يفيد الناس و من الخطأ الفادح أيضا أن نصف أيدلوجيا معينة بأنها الصواب المطلق المبرأة من کل عیب، ولذلك فإن البحث عن حیاة أفضل في حياة الناس لا يمكن أن يصبح واقعا إلا بإفساح المجال واسعا لجمیع الأفکار و الأیدلوجیات و ترکها تتعايش في جو معافی تماما وخاضع لقانون التجربة و الخطأ لیختبرها الواقع و یأخذ منها ما ینفع الناس و یترك الغث لیذهب جفاءً وهکذا تتطور الایدلوجیات و تنمو و تتقارب، وفی طریق البحث عن الحقیقة فإن العکس داٸما هو الصحیح لأن قتل الایدوجیات و الافکار داٸما ما یٶدی الی تدهور الحیاة و رجوعها للوراء و یٶدی دائما الی کوارث مركبة نعیشها الآن فی حیاتنا و ندفع ثمنها غالياً .
إن کثیر من الناشطین الآن یتحدثون و يملأون الأسافير بأحاديث عن موت الأیدلوجیا و هذا فی إعتقادی خطأ كارثي یستحق المراجعة لأن الأيدلوجيا و الأفکار لا تموت وإنما تتطور وتنمو و موت الأیدلوجیا یعنی موت التفکیر … أنا أفکر إذا انا موجود …و موت التفکیر یعنی فناء البشریة .
إن الهجمة الشرسة علی الأیدلوجیا و الأفکار في حقيقتها هی هجمة ذات دوافع إقصاٸیة ضد التنوع و الإثراء و دعم للتیارات الظلامیة التی تدعوا لإستئصال الآخر، وفی تقدیری أن ما یحدث لیس بالضرورة هو موت للأیدلوجیا بقدر ما هو دورة من دورات المراجعة البشریة لأفکارها و أیدلوجیاتها المختلفة فی إطار البحث عن حیاة أکثر عدلا و نماء. یعتقد کثیر من الناس بأن ما تعانيه التجربة السیاسیة في السودان من فشل کان بسبب الأیديلوجیا و تلك لعمری فریة کبری لأن الذی يحدث في السودان لیس فشلا للأیدلوجیا بقدرما هو فشل نخبوي في ممارسة الأيدلوجيا نفسها و هو خطأ ناتج عن خلل فی توصيف مفهوم الأیدلوجیا و لأننا كسودانيين لا نٶمن أصلا بمبدأ الشراکة و تنوع الافکار ولاننا دائما اقصاٸیون و إستئصاليون لا ندرك أبداً مفهوم أن… نصف رأیك عند أخیك …و نٶمن داٸما بأن موت الآخر هو حیاتی و حياتي تعني نماء الوطن، وموتی هو حیاة الآخر و حياة الآخر تعني دمار الوطن و نحن لا ندرك حقيقة بأن الرأی الآخر هو المرآة التی من خلالها یمکن أن تری نفسك و تقیم وتقوم أفکارك وتصوراتك و تطورها من أجل وطن واحد یسع الجمیع بلا أحقاد و لا تشاکس ولا إقصاء مما يستدعي إيجاد مفاهيم جديدة لتوصيف الأيدلوجيا بحيث تكون متسقة في ذهن المتلقي مع فكرة المشروع الوطني الجامع.. نواصل