شجرة الملكةإليزابيث في شارع البلدية
========
في يوليو 2016م تلقت نقابة المحامين السودانيين دعوة من السفارة البريطانية في الخرطوم للمشاركة في الإحتفال بذكرى الميلاد التسعين للملكة إليزابيث ، ملكة بريطانيا . ذهبت والنقيب الطيب هارون مساء ذلك اليوم الإستثنائي ووجدنا إحتفالاً أنيقاً وملوكياً يشبه حجم المناسبة وأهميتها في فناء حديقة السفارة الكائنة في شارع البلدية . كان الحضور السوداني كثيفاً ومختاراً بعناية فائقة ..واضح من تنوعه أن السفارة قصدت استغلال المناسبة لتعزيز العلاقات الشعبية في البلد . والحقيقة أن الشعب السوداني في قلب الملكة اليزابيث منذ زيارتها الأولى للسودان في الثامن من فبراير 1965م ، وطافت فيها البلاد ، من الخرطوم إلى الأبيض ثم الدمازين برفقة الدكتور التجاني الماحي رئيس مجلس السيادة وقتها . وقد عكست هذه المكانة في قلبها الكلمات التي قالتها في حفل الشاي Tea Party الذي أقيم لها في بلدية أمدرمان . وقد لا يعلم الكثيرون أنها كانت السبب المباشر في عودة العلاقات بين السودان وبريطانيا أواخر التسعينات حين قطعت وسحب السفراء من البلدين في عهد الإنقاذ ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجر .
علق في ذاكرتي من حفل السفارة التسعيني ما ذكره السفير أن الملكة وفي زيارة العام 1965م قامت بشتل شجرة الجميز الضخمة التي تتوسط حديقة السفارة ، ولعل في إختيار هذا النوع من الأشجار المعمرة رمزية لأزلية العلاقات بين الشعبين والبلدين . هذه الشجرة العملاقة يراها المارة من أعلى سور السفارة ناحية شارع البلدية.
برحيلها هذا العام تصبح إليزابيث أطول ملكوك وملكات العالم القديم والحديث بقاءاً في الحكم . سبعون عاماً في الخدمة . وأظنه ، الملك المصري رمسيس الثاني ، الذي حكم خمسين عاماً ، هو الوحيد الذي قارب أو ناهز مدتها !! . لقد كانت محظوظة ، إذ جاءت وحكمت أيام التوثيق بالأبيض والأسود ثم لحقت عصر التوثيق المعرفي بالوسائط المتعددة وبالصورة والصوت وكل ألوان قوس قزح . ولا يذكر من عهد رمسيس الثاني إلا بقية من قبره وتمثاله الحجري الذي تم نقله قبل سنوات من ميدان رمسيس إلى متحف الحضارات . حتى أطفال هذا الزمان توثق حياتهم بالألوان والصوت والصورة وهم أعظم حظاً من الملك رمسيس وجورج السادس والملكة فكتوريا !! . لقد طالت مدة حكم الملكة الراحلة إليزابيث الثانية حتى عدتها بعض وسائل الإعلام الإنجليزية (قديسة) كما فعلت بعض الوسائل الجنوب أفريقية مع الراحل نلسون مانديلا ، وتساءلت في عديد المرات (Is he a saint ) !! . ولكن للراحلة إليزابيث مكانة دينية أرفع من مانديلا ، إذ أنها الرئيس الفخري لكنيسة إنجلترا.
يعلم الناس والقانونيون على وجه الخصوص ، أن الملكة أو الملك في بريطانيا لا يحكم وأن سلطته إسمية (Nominal) . وهو منصب دستوري تليد ومتوارث ، يعتبر الصخرة التي بنيت عليها بريطانيا العظمى وما بعد العظمى . ورغم الانتقادات التي توجه إليه من حين لآخر بسبب التكلفة العالية ( مئة إلى مئة وعشرين مليون دولار سنوياً مصروفات العائلة الملكية ) ، إلا أن الأهمية لا تخفى على أحد في إستقرار منح النظام الدستوري البريطاني ، بل وحتى في ضخ قدر من الحكمة لمجريات العمل الحكومي والسياسي . فقد كانت الملكة تتلقى تنويراً واحاطة أسبوعية من رئيس الوزراء وتقدم له النصح ، فقد كانت الملكة إليزابيث الأكبر سناً من كل رؤساء الوزارات وبالتالي الأكثر خبرة ومعرفة بالسياسة والحكم ، ما عدا رئيس الوزراء ونستون تشرتشل الذي كان يكبرها سناً حين تولت العرش في العام 1953م . المؤسسة الملكية مهمة جدا للديمقراطية البريطانية وهي الضلع الدستوري المهم في مثلث السيادة في الدولة ، والضلعان الآخران هما الكنيسة البروتستانتية والمؤسسة المنتخبة مباشرة من الشعب ( البرلمان بغرفتيه ورئيس الوزراء ) .
والضلع الثالث المنتخب معلوم لدى الجميع إلا أن دور الكنيسة البروتستانتية هو الأبرز في المبادئ والتقاليد الدستورية البريطانية منذ قرر الملك هنري الثامن الإنفصال عن الكنيسة الكاثوليكية والتحول للبروتستانتية . وللسير على ذات الطريق وفي قصر القديس جيمس ، تعهد الملك الجديد تشارلز الثالث أمام مجلس الجلوس على العرش ، بالحفاظ على ( الديانة البروتستانتية ) وكنيستها .
كل هذه الركائز الثلاث أو ال Pillars متوارثة من قبل ظهور وثائق حقوق الإنسان الدولية بل حتى من قبل ( الماقنا كارتا ) وهي حية حتى اللحظة التي رأيناها فيها بالألوان والصوت والصورة . ولا يستنكر أحد في أعظم الديمقراطيات الغربية الحالية حضور الكنيسة ومباركاتها الدينية . وقد ذكر في الإعلان الثاني لتولي العرش ، والذي جرت مراسمه في وسط لندن عند مبنى ال Royal Exchange ، أن اللوردات الروحيين والدنيويين هم الذين يعلنون ويباركون تولي الملك للعرش . وكل تلك المظاهر إلى الدعاء والصياح عالياً ( حفظ الله الملكة ) وبعد اليوم ( حفظ الله الملك ) .
الدرس المستفاد هو أن الديمقراطيات تحيا وتمتلئ بالحيوية والاستمرار بالرافعات والمكونات المجتمعية وعقائد الشعوب وأهمها المكون الديني ، فهو الوقود النووي الذي يغذي الشعوب ولا ينبغي اقصاؤه من الحياة .
===================
طارق عبدالفتاح المحامي