جريدة اماراتية : يوسف فضل حسن.. السودان جهة القلب..قامة كبيرة وموسوعية في التاريخ والبحث والتوثيق
يعد المؤرخ والبروفيسور السوداني يوسف فضل حسن، الذي تم اختياره شخصية العام الثقافية لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، قامة كبيرة وموسوعية في التاريخ والبحث والتوثيق، خاصة في تاريخ السودان وكل ما له صلة بالدراسات الإفريقية المتخصصة. وجاء في حيثيات هذا الاختيار، أن ذلك يهدف إلى تكريم أعلام الفكر والأدب والتاريخ والعقول التي شكلت جهودها المعرفية إضافة إلى خزانة الكتب العربية في مختلف المجالات، واختياره من دون شك، ينسجم مع رسالة المعرض الداعية لتقديم نماذج رائدة ومؤثرة في الثقافة العربية للأجيال الجديدة، لتحذو حذوها وتخطو على خطاها.
من يتابع السيرة المهنية للدكتور يوسف فضل حسن، لا بد وأن يتوقف عند محطات بارزة منها ما يتعلق بالبحث الأكاديمي الصرف، فأبحاثه في تاريخ السودان وإفريقيا باتت بمثابة مراجع مهمة لكل دارس وباحث في هذه الموضوعات المتخصصة، لاسيما أن مؤلفاته قد تجاوزت 30 كتاباً بين التأليف والتحقيق والتحرير، وذلك في القارتين الإفريقية الآسيوية، وقد تخلل ذلك إشرافه على الكثير من الأبحاث ورسائل الدكتوراه حول هذا الموضوع المتخصص.
تطوير
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الشأن الأكاديمي والبحثي في سيرة الشخصية المكرمة، قد تماهى مع مناصبه الأكاديمية والإدارية في عدد من الجامعات والمراكز السودانية العربية والإسلامية، حيث عمل على التطوير في كل مرحلة من هذه المراحل خاصة حين ترأس كرسي الدراسات التركية بمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية منذ 2002 وحتى الآن، وكذلك توليه منصب مدير أبحاث السودان في جامعة الخرطوم بين عامي 1965 و 1972، وإدارة جامعة أم درمان الإسلامية بين عامي 1983 و1984، وأيضاً خلال إدارته لجامعة الخرطوم خلال الفترة من 1985 إلى1991، وغيرها من المناصب، كعمله أستاذاً زائراً مع جامعات عربية وإفريقية أخرى وعمله كمقوم لبحوث الأساتذة للترقي لوظائف الأستاذ المشارك في جامعات لاغوس بنيجيريا، والجامعة الأردنية، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، وجامعة الشارقة، وجامعة الملك سعود، وجامعة جوبا، والنيلين، وجامعة هاورد، وجامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
بانتهاء فترة إدارة البروفيسور يوسف فضل حسن لمعهد الدراسات الإفريقية في عام 1983، بلغت جملة منشورات المعهد نحو 150 كتاباً، كما أسهم في عقد سلسلة من المؤتمرات العلمية، ولعل من أهم الإضافات التي سعى لإنجازها حسن في عام 1976 هو إنشاء قاعة الشارقة للمحاضرات والتي شيدت بدعم من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والتي تم افتتاحها في فبراير من عام 1987 وتهدف إلى دعم العلاقات العربية الإفريقية.
جامعة الخرطوم
خلال إدارته لجامعة الخرطوم بادر البروفيسور يوسف فضل حسن بالتخطيط لإنشاء قسم الدراسات الإسلامية، واتخذ كل الخطوات المؤسسية اللازمة لذلك، فأنشأ قسم علم النفس في كلية الآداب وأدخل تدريس دبلوم عال في اللغة الإنجليزية بالكلية، كما عقد أول ندوة حول تعريب التدريس في الجامعة، وأدخل نظام الساعات المعتمدة لأول مرة في كلية الآداب، وشرع في بعث وتجديد وحدة الترجمة والتعريب بكلية الآداب، وأنشأ وحدة لتطوير اللغة الفرنسية في مجال العلوم.
وتتوالى إنجازات البروفيسور حسن في تجويد المستوى الأكاديمي وتقوية الجهاز الإداري خلال ترؤسه لجامعة أم درمان الإسلامية بين 1984 – 1985، حتى تستطيع الجامعة تأدية دورها على أكمل وجه في خدمة المجتمع السوداني وتقوية صلاتها بالمؤسسات العلمية المماثلة، حيث بادر في تلك الفترة بإجراء دراسات لإنشاء كلية العلوم، وبدأ بتأسيس قسم الكيمياء، وقام بتكثيف الاتصال بالممولين لتطوير أوقاف الجامعة.
هوية
دفع اهتمام حسن بالبحث في تاريخ وهوية السودان إلى تأليف واحد من الكتب المهمة بعنوان «الهوية السودانية، ملامح من جذورها ورؤى حول مستقبلها» وصدر في عام 2014، وهو كتاب يستقرئ الهوية السودانية، وإلى أي مدى استوعبت التعدد والتنوع الثقافي، خلال الأطر الجغرافية المتغيرة للسودان في الفترات التاريخية المتعاقبة. والكتاب يعرض رؤية مستقبلية للهوية السودانية لتسهم في استقرار الوطن وتطوره.
ويغوص الكتاب في الحقب التاريخية المختلفة للسودان، بدءاً بالشعوب التي استوطنت فيه منذ أزمان بعيدة وحتى عهد الحكومات الوطنية التي أعقبت استقلال البلاد، والكتاب يفرق بين مفهومي الهوية والمواطنة، ويرى أن الهوية ترتبط بالثقافة وأن المواطنة ترتبط بالقانون، وفي نظر مؤلفه فإن المفهومين متداخلان لتعدد الهوية وتنوعها في السودان، فهو يشير إلى أن انفصال جنوب السودان لهو خير دليل على فشل النخب السودانية الحاكمة في إدارة التنوع الثقافي في السودان وإيجاد صيغة وطنية لهوية البلاد، ويخلص الكاتب إلى أن السعي للحفاظ على ما تبقى من السودان موحداً ومتناغماً يفرض علينا استعادة درس الأمس والاستفادة منه بتلافي الأخطاء التي قادت إليه.
النيل الأوسط
من المهم في هذا المقام الإشارة إلى كتابه «الشلوخ.. أصلها ووظيفتها في سودان وادي النيل الأوسط» والكتاب بمثابة دراسة معمقة في التراث السوداني يعود المؤلف فيه إلى الطفولة، إلى إصرار جدته لأبيه، على احتذاء عادة أجداده بوضع فصدات على خديه، حينما علمت بانتقال والده الذي كان يعمل في الخدمة الحكومية، خارج مسقط رأسه، رغم رفض والدته الأمر، ويربط يوسف فضل هذا الحدث بوظيفة الشلوخ «وشم على الوجه» في التمييز بين القبائل، ثم ينتقل إلى الدلالات المُتحوِّلة للشلوخ وهي دلالات دينية وجمالية باحثاً عن أصلها المُدّعى في شائع القول لدى السودانيين بأنها عادة عربية.
ويذكر يوسف في دراسته ذائعة الصيت بين الباحثين السودانيين -المنشورة في العام 1976م أنه قد استرعى انتباهه خلال دراسته لهجرة القبائل العربية إلى السودان، انتشار الشلوخ بين المجموعات العربية والنوبية المستعربة التي تقطن شواطئ النيل، ومن ثم ادعاء تلك المجموعات أن الشلوخ عادة عربية أصيلة، وسمة تُميِّز العرب عن غيرهم من الشعوب الوطنية الأخرى كالنوبيين، ومن نزحوا إلى السودان في القرن ال 19 من المصريين والشوام والأتراك والفلاتة، ويقول: «لا نجد أثراً للشلوخ في المناطق التي استعربت وتمثلت الثقافة العربية تمثلاً كاملاً» ويضيف:«منذ ذلك التاريخ أخذتُ في تتبع عادة الشلوخ ونظائرها في منطقتي الشرق الأدنى والسودان في نتائج الحفريات الأثرية والمصادر العربية وكتب الرحالة الأوروبيين والروايات الشفوية وغيرها، وهو يتساءل: «أهي موروث وطني أم عادة عربية وفدت مع المهاجرين العرب؟ أم هي تجسيد لمفهوم ثقافي جديد اقتضاه التلاحم العربي القوي؟» ويجزم، بأنه لم يقف على إشارة صريحة في المصادر العربية، لانتشار عادة الشلوخ، للدلالة على عملية وضع علامات مُميَّزة أو سمات خاصة على الوجه، لكنه يلفت إلى أن العرب يستعملون ألفاظاً أخرى للدلالة على عمليات شبيهة بالشلوخ، كالفصد والوشم واللعوط والمشالي.
سيرة
ولد البروفيسور يوسف فضل حسن، في بلدة المحمية في السودان عام 1932، نال درجة بكالوريوس عام جامعة الخرطوم في الآداب، 1956، وحصل على درجة بكالوريوس الشرف في التاريخ عام 1959 من جامعة لندن، ودرجة الدكتوراه في تاريخ العرب 1964، وعمل محاضراً في التاريخ، قسم التاريخ بجامعة الخرطوم.
شغل د. يوسف فضل العديد من المناصب الأكاديمية والبحثية واللجان العلمية والإدارية في السودان بين الستينات حتى يومنا هذا، كعضويته في مجلس دار الوثائق القومية، ومجلس معهد الموسيقى والمسرح والفنون الشعبية، ومجلس أمناء جامعة أم درمان الأهلية والمجلس القومي للصحافة والنشر، والمجلس القومي للبحوث العلمية، وأيضاً فقد كان عضواً في المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون وعضواً للجنة التنفيذية للجمعية الفلسفية، وعضواً مؤسساً وعضو مجلس إدارة المركز الإسلامي في الخرطوم وعضو مجلس أمناء المكتبة الوطنية ورئيسها وعضو مجلس الأمناء فيها وعضو المجلس الاستشاري لوزارة الثقافة والسياحة وعضو لجنة المعالم الجغرافية القومية ورئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للآثار والمتاحف وغيرها.
وقد شغل كذلك عضوية الكثير من الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية التي تزيد على 17 مؤسسة وهيئة إفريقية ودولية، ولا يزال عضواً في بعضها إلى اليوم.
30 كتاباً ودراسة
صدرت ليوسف فضل حسن كتب وبحوث وأوراق علمية باللغة العربية تزيد على ال 30 كتاباً بين تأليف وتحقيق وتحرير، وأشرف على إصدار 20 عدداً من مجلة (السوداني) في رسائل ومدونات تصدر باللغة الإنجليزية.
ومن إصداراته (مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي، الخرطوم، الطبعة الرابعة، 2003).. و (دراسات في تاريخ السودان، الجزء الأول، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1975).. و(دراسات في تاريخ السودان وإفريقيا وبلاد العرب، الجزء الثاني، – جامعة الخرطوم للنشر 1990)، وأيضاً (انتشار الإسلام في إفريقيا، الخرطوم 1979).
طبقات ود ضيف الله
من أبرز الكتب التي قامت الشخصية المكرمة بتحقيقها كتاب «طبقات ود ضيف الله» لمؤلفه محمد نور بن ضيف الله، وحقق الكتاب بالمشاركة مع الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم وصدر في الخرطوم عام 1972، وميزة هذا الكتاب أنه يبحث في خصوصيات الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، ويعرف الكتاب باسم «طبقات ود ضيف الله» ووصف بأنه من أهم الآثار المكتوبة وأحد المصادر الأساسية التي يعتمد عليها في معرفة حركة المجتمع السوداني في جميع جوانبه في الفترة ما بين 1504 و 1821.
و«طبقات ود ضيف الله» تعتبر من أمهات الكتب في التراث السوداني، والمرجع الأول المطبوع لدارسي التصوف في السودان، كما يعد الكتاب من المصادر الأولية المهمة في تاريخ (سلطنة الفونج)، إذ وردت بين ثناياه العديد من الإشارات التي تبين حياة التصوف والسلوك الاجتماعي في الدولة ومكانة الأولياء والمتصوفين في الحياة والذكر. وهو يتناول فترة من أخصب فترات التاريخ بالسودان، حيث وضعت الأسس المبكرة للفقه والقرآن. ومما يلفت النظر ويستدعي اهتمام الباحثين والمؤرخين، أن الشيخ (محمد نور ضيف الله) قد خط هذا الكتاب العظيم، في زمن قل فيه العلم رغم مشقة الأسفار وحواجز الطبيعة، وبدائية الوسائل التعليمية، مما يعد مفخرة لفقهاء السودان.
جريدة الخليج