عبد الحفيظ مريود يكتب: ولكن إذا فسد الملح…

الدعاية السوداء جعلت عامل فوز هاشم بامكار، فى انتخابات ١٩٨٦م، عن إحدى دوائر شرق السودان، هو أنه وعد أهل دائرته بأنه سيقوم ببناء جسر بين بورتسودان وجدة..لا يحتاج الناس، حينئذ، لركوب السفن، السمبك أو الطائرات للإغتراب فى السعودية..ولأن “الأدروبات ” يحبون الترطيبة والدعة، فإنهم صوتوا له، وفوزوه..لعلها إحدى محن حسين خوجلى وصحيفة “ألوان”..
شايف كيف؟
يصل أوسكار وايلد، المسرحى الفذ، إلى أننا وصلنا “عصر إنحطاط الكذب، نفسه”..ويصنف بالترتيب الأكثر إنحطاطا فى الكذب : السياسيون، المحامون والاعلاميون. بالنسبة إليه، يكون الكذب فنا، مكتنزا بالجمال، حين يعالجه المبدعون. ليس ههنا سوء قصد، على الإطلاق..يكذب الشعراء، الكتاب، الفنانون، عموما، دون أن يلحقوا أذى بأى أحد. لا يضيرك إن كانت محبوبة الشاعر تفوق القمر نورا، أم لا..
لكن الفئات الثلاث المذكورة فى تصنيف إنحطاط الكذب، تلحق أذى جسيما بالمعنى الإنسانى، والوجود الإنسانى بأكمله.
شايف كيف؟
هل يمكن النظر إلى رفض المحامين لقرار محكمة ما، دع عنك قرار أو حكم يتعلق بإتحادهم المهنى، على أنه تحقيق لدولة المواطنة وسيادة القانون؟ فضلا عن مقابلة حكم المحكمة وقرارها بحشد مجاميع من البلطجية، ملوك الاشتباك، الثوار، لجان المقاومة، غاضبون، أو أى جسم، لصنع “مقاومة ثورية”، تعمل – إذا ما قيض لها النجاح – على إرساء “سيادة القانون”؟
شايف؟
يستلف جاك ديردا، فى “تأريخ الكذب”، مقاربات حنة أريندت، الرامية إلى توصيف ” الكذبة المكتملة، والنهائية”، والتى بات يتقنها الثلاث فئات التى أشار إليها أوسكار وايلد..
لتكون الكذبة مكتملة ونهائية، لابد لها أن تلبس لباس “قول الحقيقة، أو الصدق”. وهى إذ تفعل ذلك، تنقض الوجود الإنسانى نفسه، ومعناه..لا يحتاج المحامى إلى أكثر من ربطة عنق وشهادة مزاولة المهنة، ليمرر هراء كثيرا حول “سيادة القانون ودولة المواطنة، وضرورة نزاهة المؤسسات العدلية”..سيصدق العامة، من أمثالنا، أن الرجل يقول الحق، وسيلتزم بالصدقية العالية.
حسنا…
تم طرد لجنة تنفيذية ونقيب محامين معترف بهما، بحجة أنهما يتبعان للنظام البائد..وهذا شيئ يثلج الصدر. كما جرى احتلال الدار بواسطة لجنة تسييرية للمحامين..وعلى مدى ثلاث سنوات أو يزيد، تمارس أدوارا خارج سياق القانون. أى قانون؟ لنفترض أنه قانون سنه كتشنر باشا، فرعون موسى، هتلر، سيتوجب على “حماة القانون” إحترامه، أولا..تطبيقه، ريثما يتسنى للجهة التشريعية أن تلغيه، تغيره، تدخل عليه ما شاءت من تعديلات، والدفاع عنه.
لكن أن يلجأ رجال القانون إلى “رفض حكم المحكمة”، دون استكمال التقاضى داخل مؤسسات القضاء، ويحشدوا، بصورة غوغائية، مجموعة من الحمقى للدفاع عن “سيادة القانون”، لهو “إنحطاط الكذب”، الذى عناه أوسكار وايلد..
شايف كيف؟
الكذبة، ههنا، “مكتملة ونهائية”..لأن لا أحد سيصدق أن المحامين يمكن أن يكونوا “منتهكين لحكم المحكمة”. مثلما لن يصدق أحد أن إمام المسجد، وخطيب الجمعة، متورط فى ممارسات لاأخلاقية ضد الأطفال. فالثابت أن المحامى هو الأولى باحترام القانون والتقيد بحكم المحكمة. يستأنف – تقاضيا – وصولا إلى المحكمة العليا، فالدستورية. لكنه حين يستدر “تعاطف قوى الثورة الحية”، أو الميتة يدق آخر مسمار فى نعش العدالة والديمقراطية وسيادة القانون. ذلك أن (الآخرين) سيركلون القانون والمحكمة والقضاة على أقفيتهم. لأن “القانونيين” فعلوا ذلك. وبالتالى تكون أى أحاديث يقولها هؤلاء المحامون هى استمرار ل “الأكاذيب المنحطة والمبتذلة”..
شايف؟
لا تفرغ حنة أريندت فى “السياسة والكذب” من حشد الشواهد لتصك حقيقة إرتباطها بالكذب، على الأقل فى القرنين الأخيرين. السياسة والدبلوماسية محض كذب مكتمل الأركان ونهائي. يؤسس لعصر اللاإنسانية، بما أنه ينتهك الصدق، الذى هو جوهر الوجود الإنسانى، بحسب إيمانويل كانط..ذلك أن الكذب لا تبرير له، على الإطلاق. وحين يكون الكذب هو الوسيلة التى تتغيا استجلاب الخير، يكون الخير – حينها – مفرغا من محتواه..
شايف كيف؟
يمكن للإعلاميين، ضمن قائمة الوضاعة، التى حددها أوسكار وايلد أن يستمروا فى “تجميل الكذب”، باعتبار أن الإعلام خادم قميئ للسياسة. تندرج “الكذبة المنحطة” التى روج لها الإعلام، سخرية من فوز هاشم بامكار، ومجتمع الأدروبات، فى هذا الانحطاط المبرر..لكن أن ينخرط المحامون – بعد ما يقارب الأربعين عاما – فى تأسيس العدالة وسيادة القانون، والدفاع عن الحريات، على أرضيات ركل مؤخرة القضاء والمحكمة، لهو الانحطاط الأقذر، على الإطلاق..
قال سيدنا المسيح عيسى بن مريم، عليه سلام الله تعالى :” ولكن إذا فسد الملح، فبماذا يملح؟”

* ملحوظة:
أن يكون القمر أسود، على غرار كذبات الفنانين، غير الضارة بالوجود الإنسانى، ولا المهددة له.