أقبل الليل والخيارات محدودة إلا لمن بيده (ريموت كونترول)..هو حر والفضاء(يتسع للتميز) برغم وبرغم!..إستوقفني حوار ساخن بين أناس مختلفين سرا وعلنا تحتار كيف لمت شملهم قناة!..فور إنتهاء البرنامج قررت أن أشارك فيه، بأن أكتب عنه حتى لا يفوتني شرف الإنتساب لعمل(فلتة) مر من هنا،فأحيي فريقه!..إن التراخي فى تقييم الناجحين وتحفيزهم هو من نواقص القادرين على التمام..الآن تقام لهم المهرجانات..الصحافة شريك فيما أفلح فيه الأوفياء للبلد إبداعا وتعزيزا لمآثر الرأي والرأي الآخر،ثم إنها تزكي البرامج الجيدة ليلاحقها الناس عبر منصات التواصل،فيستمتعون بها على مهل ويدركون أن الدنيا بخير- هناك منتجون لا يغمض لهم جفن حتى يأتوا بجديد يتحدى حجج الظروف وإنتظار الغائب، وما إلى ذلك.
إستوقني برنامج مهيب الطلة، ماذا هناك؟!..تذكرت تلك التى ذاع صيتها يوما(أمسيات)،(تحت الأضواء)،(أسماء فى حياتنا)،(دنيا دبنقا)،(الكرسي الساخن)،(فرسان فى الميدان)،(مسابقات المدارس)،(علم نفسك)،(الصلات الطيبة)،(أيام لها إيقاع)،(قطوف)- والقائمة تطول لبرامج ووثائقيات تأسس نجاحها على(إتقان) الإعداد والإخراج والتقديم،تلك الوصفة السحرية التى هيأت،قبل كليات الإعلام،آفاق التميز بضمان فريق عمل حسن التأهيل والتحفيز، ومشاركين تألفهم الكاميرا يختلفون بمودة ويتوافقون بمحض إرادتهم(الحرية لنا ولغيرنا)- كما قال ضيف بيده أخطر الملفات العدلية إستقطبه برنامج عول على حديث الناس شعاره(صوت من لا صوت له) يغري بالمشاهدة، فكأنه من الإرشيف!.
حديث الناس وما يدور فى مجالسهم فاكهة الإعلام..فمع تعقيدات سياسية وإقتصادية طالت بآثارها أوضاع المجتمع وسعة البيوت أصبحت وسائل الإعلام معنية بتقديم ما كان منتظرا من الأندية والسينما وغيرها، حكاوينا والترفيه والثقافة والمعلومات..من يقيم هذا ويحفز عناصر الإنتاج المتميز برغم الظروف؟..المطلوب من الإعلام أكثر.. أن يدعو الناس ويدعهم يتحدثون بمآثرهم،وكيف يحلون مشاكلهم يصنعون النجاح والأمور عصية..يخطر لي هذا كلما أطلت حلقة جديدة من برنامج يحافظ على نجاحه ويتفوق على نفسه.
برنامج(حديث الناس)بقناة(النيل الأزرق) يبدو مثالا لهذا(الإستايل)..برنامج حواري من طراز ما تعارف العالم على أنها مصفوفة(متعة الإعلام الهادف) وقوامه المعلومات والقيم..إني أميل لهذا النوع من البرامج،ولربما كنت متاثرا بدراسات حديثة عن مزايا البرامج التفاعلية بإعتبارها مفضلة للثلاثة معا- الجمهور،المعلن، وفريق العمل..إنها جاذبة تقنيا،مفتوحة للمداخلات الطازجة،تتعهد بمفاجآت، تتجاوز تعنت الرقابة والمنتاج،تعزز قيم المشاركة والفورية والشفافية والحرية، تشبع تطلعات رواد مواقع التواصل،ثم انها تحتفي بجمهور لا بديل لأمسياته سوى التلفزيون والبقاء فى البيت.
الموضة السائدة إعلاميا هي(إنتاج عالي النقاء)..قوامه الإتقان والمواكبة، موضوع يهم الناس،مشاركون متمكنون ومن بيده خيوط الحوار يطوعها بمهارة وتجرد..أوهذا ما حدث بقناة سودانية شجاعتها ظلت كافية لتناول أخطر قضايا البلد..وهي الآن ومنذ الإسقلال(الوضع الدستوري)..بمتعلقاته وآثاره الخطيرة على الحياة والدولة والمجتمع وأمن المواطن ومعاشه وطمانينته..فكأننا أمام برلمان.
بذكاء ومسؤولية معهودة في حلقاته السابقة، إستضاف برنامج(حديث الناس)الاثنين الماضي شخصيات متصلة بالحراك الدستورى الجاري وما تشهده البلاد من تنازع حول إدارة الدولة،إرساء أركان العدالة،المحكمة الدستورية،مفوضية الانتخابات،وملف المتظلمين..كيف تسنى للقناة إقناعهم ليتلاقوا هاهنا رغم تعدد الأيدولوجيات والأمزجة والأعذار وتربص من لا يعجبه العجب ولا يرضيه التراضي؟.
.من قال إن التراضي يستعصي؟!. إعترت الأستديو موجة من التوتر تثير الإشفاق على المذيعة والقناة وحرية الحوار..المشهد أعاد للأذهان ما قد حدث،كما صنفوه بأنفسهم- أتوا بما صنعوا..بيئة الإستديو تعين على خلاف ذلك- ما يجمع..هم أربعة شخصيات عدلية متمرسة خامسهم مقدم البرنامج-مثقفة حصيفة محفزة لصراحة مسؤولة، ملمة بالموضوع،فكأنها منهم- حباها الله بالقبول..الناتج متعة المعلومات، حوار يفيض بحلول دستورية تتولد بين يدي المشاهد ليتمناها واقعا لتسعف بلادا يتجاذبها بنوها وغيرهم .
تدفقت المعلومات طازجة حول ما خفي..إنتزعت المنصة تصريحات أشبه بالسبق الصحفي من مصادرها فى أجواء هيأها أستديو إتسع لروح ودودة(أستاذي،صديقي،زميلي)- روح للتراضي وإقرار بما حدث وضرورة تجاوزه..الحلقة إثراء للرأي العام،وصورة للخارج-هكذا يفكر السودانيون،يختلفون ويتوافقون بلا وسيط ..البرنامج نموذج لبرلمان منتظر.
تداعت ثقافة قانونية رفيعة تذكرنا بخدمة راقية قدها التلفزيون على ايام برنامج(مشكلات قانونية)للأستاذ كمال شانتير،وابتكرت الاذاعة(اسالوا اهل الذكر)للفتاوي القانونية..هذه سانحة للتذكرة باهمية بث الثقافة القانونية عبر وسائل الإعلام،وقد أوصى بذلك مؤتمر للقنوات والإذاعات العربية بتونس(ليعرف الناس حقوقهم).
*د.عبدالسلام محمد خير *