عبد الحفيظ مريود يكتب: الأوصفوك
وعبد القادر الكتيابي يركب سيارة متهالكة، تسعينيات القرن الماضي، يقضي بعض مشاوير متفرقة في بحري، والخرطوم.. ولأن الشاعر محمد بشير عتيق كان قد نزل المعاش، يأخذه الكتيابي – متى تيسر ذلك – رفيقاً في مشاويره، يزجيان الوقت، ويتآنسان.. كلاهما شاعر فحل، لا يلحق الراسخون بغباره..
شايف كيف؟
أناكف أصدقائي الكتياب، لداحة وقلة أدب، لا أكثر.. لو أنني كنت ملكاً للسودان، مثل بريطانيا، مثلاً، وكانت لدي مستعمرات، وخيرت بينها وبين التجاني يوسف بشير، لاخترت التجاني.. الذي ورث موهبة التجاني العظيمة هو عبد القادر الكتيابي.. باقي الكتياب أصداء، أو مشاريع شعراء.. الكلام دا بدون زعل يا جماعة..
من الغرائب المحزنة، أن شاعراً شاباً من “جيلنا”، وكدا.. أثناء نقاش قديم في التسعينيات، كان يؤكد “حداثويته”، قال لي: (بالنسبة لي، لو جرت المقارنة بين الكتيابي وعبد اللطيف علي الفكي، لاخترت عبد اللطيف.. الكتيابي تقليدي)..
لم أنصدم، بالطبع..
نظريتي في الشعر أنك إذا حفظت مقطعاً، مقاطع لشاعر ما، دع عنك قصائد كاملة، فهو شاعر.. تستطيع أن تسمعني الآن متفرقات مما علق بذاكرتك للكتيابي، لكنك لن تستحضر جملتين لعبد اللطيف علي الفكي، ولا زكي جمعة.. المسألة ليست “حداثة”، أو حشر مفردات مهملة في جمل غامضة.. بلا حداثة بلا بطيخ..
شايف كيف؟
لن أنتصر لأدونيس، مثلاً مقابل محمود درويش، بحجة الحداثة والغموض.. الشاعر شاعر، والما شاعر، ما شاعر..
نعود لما كنا فيه.. كما يقول بروف عبد الله الطيب..
ختام مشاوير ذاك النهار، كانت “غشوة” خفيفة لشيخ الشعراء عبد الله الشيخ البشير.. عتيق يقول للكتيابي: (أنا بنتظرك في العربية.. أمشي وتعال لي.. ياخ دا شاعر كبير جداً، أنا ما بقدر أتونس معاهو.. خليني هنا).. لكن الكتيابي يقنعه، لن تطول جلستنا، فألقِ السلام عليه، وطايبه.. حين يقتنع، يقول للكتيابي: “خلاس ما تقول ليهو الزول بكتب شعر.. تحرجنا ساي”..
وعبد الله الشيخ البشير في صالونه، بالديم.. الكتيابي يسلم عند مدخل الصالون، فيرد.. يعلمه أن معه محمد بشير عتيق.. يرحب شيخ شعراء السودان “يا سلاااااام.. الأوصفوك”.. ويسمع القصيدة.. حين يفرغ، وهما واقفان عند المدخل، يلتفت الكتيابي إلى عتيق، فيجد دموعه منهمرة..
كيف يمكن أن يكون شيخ شعراء السودان، يعرف عتيقاً، ويحفظ له، كمان؟!!!
شايف كيف؟
هل هذا ممكن؟
عتيق لا يصدق ذلك..
بالنور أو بالنار هم ما أنصفوك..
والقصيدة حين جاءه خضر بشير يطلب أغنية، يداً بيد من عتيق، أعطاها له، وأخبره أنها لم ترق للعبادي.. العبادي علق عليها، ساخراً: “دي شنو الكلها: أوك أوك أوك دي؟”..
كوكب منزه في علاك..
فيما بعد اختصم على لحنها خضر بشير وصلاح بن البادية، لكن خضراً أثبت ملكية اللحن، وكدا.. القصيدة مكتوبة في قبطية، يقول الأمدرمانيون الأقحاح.. شخصياً لو كانت مكتوبة في واحدة “عادية كدا”، ما قبطية، كان ح يكون عندي موقف تاني، سكيني دي، إلا تابوها، ترا.. لا يمكن أن تكون قد كتبت في “المشلخات”، أو بناتهن.. هذا هذا، كما يقول البروف.
شايف كيف؟
أن تكون عتيق يعني أن تكون بسيطاً إلى درجة أنك لا ترى ما تقوله عظيماً، نابغاً، نابضاً بالحياة.. إذ لا ترى لك ميزة، أو موهبة، أو نبوغاً.. وهم أصحاب المنح الضخمة، السائرون بين الناس بلا ضجيج.
في الضرى الرمضاني، اعترض أهله أعرابياً يحمل “بقجته”، ليفطر.. وحين قاموا لصلاة المغرب قدموه إماماً.. كبر واستغفر.. ثم كبر واستغفر، عند الثالثة دخل في الصلاة.. حين فرغوا، وفيما هم يشربون الشاي والقهوة، سألوه ” لماذا كنت تكبر وتستغفر؟”.. أجابهم “كايس القبلة”.. استغربوا، جميعاً ” القبلة ما ياها كدا عديييل”.. قال لهم “يا جماعة، إنتو قايلننا واصلين زيكم بنشوفا من أول مرة؟”
فشنوووووو؟
براحة على الناس الما قايلين روحهم واصلين زيكم، بشوفوا الكعبة من أول مرة”..