يلاحظ من يتفقد الفناء الخارجي لمعظم المنازل في السودان، بخاصة في الأحياء الشعبية، وجود حفرة في أحد أركان المنزل بعمق يراوح بين 50 و70 سنتيمتراً وفي داخلها إناء من الفخار في إطار دائري يطلق عليها حفرة الدخان.
والحفرة عبارة عن حمام بخار من دون مياه يعمل على دخان الحطب فقط، ويرتبط بزينة العروس كإعلان أولي عن بدء مراسم الزواج، إذ تقوم بهذه المهمات نسوة يتخصصن في تجهيز العروس لكن هذه العادة تستمر مع العروس طوال حياتها الزوجية في ما بعد.
وتقوم المرأة السودانية بوضع حطب أشجار الطلح أو الشاف في شكل قطع صغيرة داخل حفرة الدخان، وبعد اشتعال النار في تلك القطع تجلس المرأة على محيط الحفرة ملتحفة بنوع من القماش المحلي يطلق عليه “الشملة” لمنع تسرب الدخان خارج الثوب.
زينة وعلاج
وبحسب المتخصصة في صناعة العطور السودانية آمال عيسى رابح فإن مراسم الزواج في السودان تبدأ بتجهيز العروس على مراحل مختلفة أهمها “عملية الدخان”، إذ تغطي العروس جسدها بغطاء سميك وتدهنه بمخلوط الدهن وتضيف إليه مجموعة من العطور وماء القرنفل لتصبح رائحته عطرة.
وتشير رابح إلى أن للدخان فوائد صحية عدة من ضمنها القضاء على الالتهابات وآلام الظهر وتخفيف الشعور بالخمول إلى جانب فوائده لزينة المرأة المتزوجة من تحسين وتنعيم البشرة.
وتضيف، “زينة الدخان عادة ترتبط بطقوس اجتماعية، إذ تجتمع غالباً صديقات العروس منذ الصباح الباكر ويصدحن بالغناء كمجاملة لأهل العروس، أما المرأة المتزوجة فتجلس في أحايين كثيرة وحدها أو مع صديقاتها حول حفرة الدخان خلال فترة المساء مع إعداد الشاي والقهوة والبخور وسط الأبخرة المتصاعدة من حطب الطلح والشاف”.
وتؤكد المتخصصة في صناعة العطور السودانية أن هذه العادة قديمة منذ آلاف السنين، وباتت تتوارث من جيل إلى آخر لتصبح من الموروثات الثقافية المتجذرة في مجتمع المرأة، وبالتالي فلن تندثر لأنها ارتبطت ارتباطاً كبيراً بزينتها.
تجارة رائجة
وعلى الصعيد ذاته تنشط تجارة حطب الدخان، إذ تنتشر المتاجر المتخصصة في بيع الحطب (الزريبة) بأشكاله المختلفة، ومن أكثر الأماكن الرائجة في هذه التجارة منطقة أبو روف في مدينة أم درمان، فمن المألوف فيها مشاهدة عشرات الشاحنات الكبيرة محملة بالحطب خلال الساعات الباكرة من الصباح.
ويقول محمد الأمين كرار، وهو بائع حطب في منطقة أبو روف، إنه ظل يمارس هذه المهنة منذ ثمانينيات القرن الماضي، مشيراً إلى أن تجارة الحطب تعتبر من الأنواع الرائجة لتعدد استخداماته ما بين حطب الحريق الذي يستخدم في الطبخ والمخابز البلدية، وحطب الدخان الذي يعتبر الأكثر رواجاً.
ويوضح أن ارتفاع أسعار حطب الدخان خلال الفترة الأخيرة يرجع إلى زيادة كلفة الوقود، إذ بلغ سعر قنطار الطلح ما يعادل 15 دولاراً والشاف 17 دولاراً، فيما يباع حطب البخور بحسب الوزن، ويتم جلبه من مناطق بعيدة نسبياً من العاصمة مثل القضارف والنيل الأزرق.
ويضع كرار أمام متجره أشكالاً هندسية من الحطب إلى جانب قطع فخارية يتم استخدامها داخل حفرة الدخان، لافتاً إلى أن هناك مجموعة من الأشكال المستحدثة التي يمكن استخدامها كبديل ومنها “حفرة جلاكسي”، وهي حفرة يسهل حملها والتنقل بها من مكان إلى آخر، وغالباً ما تلجأ إليها الأسر السودانية المهاجرة التي لا يتوافر فيها فناء خارجي لصناعة حفرة الدخان.
وعن أفضل أنواع الحطب التي تستخدم في هذه العملية، أوضح أن حطب الطلح والشاف يعتبران من أفضل وأجود الأنواع، ولهما فوائد صحية عالية إلى جانب قدرتهما في معالجة البشرة وتفتيحها، لأن دخان الطلح والشاف يحتوي على مادة “فينوليك” أو “فينول” التي تساعد في تثبيت بروتين الجلد وتعمل على إزالة القشرة الخارجية للبشرة.
تحذيرات رسمية
من جهة أخرى، حذرت تقارير رسمية من تضاؤل الغطاء النباتي في البلاد بعد فقدان 60 في المئة من الأشجار خلال العقود الثلاثة الماضية، إذ تتآكل مساحات الغابات بشكل متسارع بسبب القطع الجائر للأشجار للحصول على أرباح سريعة.
وقدرت التقارير حجم العوائد التي حصلت عليها مجموعات تجارية ونظامية من الاستغلال غير القانوني للغطاء النباتي بأكثر من 10 مليارات دولار خلال الأعوام الـ 30 الماضية، إضافة إلى فقدان 20 مليار دولار بسبب القطع المفرط لأشجار الشاف والطلح المنتجة للصمغ العربي.
وأشارت تلك التقارير إلى أخطار تواجه غابات السودان، مما يتطلب ضرورة مراجعة الخطط والسياسات المتبعة من قبل الدولة في هذا الشأن.
ووفقاً لخبير الغابات عبدالحي محمد شريف فإن حطب أشجار الطلح والشاف يمثل 70 في المئة من الوقود الحيوي في السودان، نظراً إلى ارتفاع بدائل الطاقة الأخرى وعدم توافرها.
وطالب شريف الجهات المتخصصة بإعادة النظر في درس ميزان الطاقة بالبلاد الذي يفوق 95 في المئة، بخاصة أن السودان يستخدم ما بين 18 و20 مليون متر مكعب من الحطب في مختلف المجالات من خدمية وصناعية ومنزلية.
وأضاف أن الغابات تلعب دوراً مهماً في اقتصاد البلاد، وعلى رغم التحذيرات المتكررة من تنامي ظاهرة انحسار الغطاء الشجري فإن الأسر السودانية تتمسك بالعادات الباهظة ومن بينها “زينة الدخان”.
وفي المقابل تنشط منظمات مجتمعية تعمل للمحافظة على البيئة في حملات توعوية بين فئات المجتمع، إذ تقول الناشطة في مجال البيئة إقبال إبراهيم إن “هناك منظمات تعمل بقوة لتعزيز الثقافة الصديقة للبيئة ومحاربة العادات التي تتسبب في إهدار الموارد الطبيعية، بخاصة أن معظم الأسر السودانية تقوم بممارسة عدد من العادات والطقوس التي تخالف تلك الثقافة، ومنها زينة الدخان باعتبارها واحدة من مميزات المرأة السودانية المتزوجة أو المقبلة على الزواج.