سيف الدين حسن المنجز الثقافي والمعنى العميق للوطن بعثا للإيمان به والإنتماء إلى ثقافته

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
نقصد بالثقافي ، الفرد المائز في مجتمعه مختصا بالإشتغال الذهني  ، راحلا بكتلته الإجتماعية إلى ميدان مغاير ومختلف .
والفعل الثقافي المبدع في حقيقته ، هو ممارسة عمليات خرق أو شق الجدر أو تجاوز العقبة .
وبهذا المعنى فهو يعمل على إقامة الشروط أو الظروف التي تمكن الناس من أنفسهم ، والتحدث عن إنفسهم .
فإن كان الآخرين في طبيعتهم لا ينتجون  إلا التعميمات من الأقوال ، فإن الثقافي لا يقول إلا بالضبط وتدقيقا .
فهو – حسب ” فوكو ” – يقول الأشياء على حقيقتها ، في اللحظة أو في الوقت الذي يجب أن يقول فيه القول :
أن يقول الحقيقة للذين لم يكونوا يرونها وباسم الذين لا يستطيعون قولها .
إنه الوعي والفصاحة ، فقوة الإنسان في عقله ولسانه كما يقول المثل العربي .
وتلك فقط آلته في مواجهة العقبة والجدار .
أن المثقف المبدع ، هو ذلك الفرد الذي يرفض أن يتم أسره في فكرة النمط ، أو انه يدرك أن المفاهيم في تغير دائم ، وهو المشكك في كل الحدود ، لا ينكرها لكنها يتحداها ، والمثقف لا يمكن أن يكون في حالة ، السالب ، لأن ذلك مناف لجوهر حقيقته .
فإن المثقف هو  إمرؤ ذو فعل ، فهو كما ورد عند محمد عثمان الجعلي :
لا يتأبط الخبائث فعلا ولا المتدني من الحديث قولا .
الثقافي صعب نمذجته في إطار القالب السائد ، الثقافي هو الوطن كله ، الوطني بدرجة أعلى .
فالوطن في حاجة إلى الحاذقين ، الذين لا تضيق بهم العبارة .
نحتاج جميعا إلى الإستراتيجي الذي يحملنا إلى حكمة المستقبل ، لا من يقودنا إلى التشرزم والموت المجاني ، نحتاج إلى العقل وكبرياء الفكرة ، لا من يحملنا إلى عنت الهرولة والشقاء والضياع .
الثقافي في إبداعه ، يجب أن يكون أنفع الناس لثقافته الوطنية ، وقيمة الجمالي دائما أن يعمل على تحسين شروط الحياة الكريمة لشعبه ، فالإحساس  بالوطن و أحلام الناس و أوجاعهم لا ينتزع الوسامة من قيمة الإبداع  ، بل يجعله وريفا ، عذبا ، شفيفا ، الأبداع هو ثورة الجمال  على كل أشكال القبح في الحياة ، وما ران في الوطن من تنطع وفجاجة .
من عيون الكلام في شأن قيمة المنجز الثقافي الإبداعي الفني المبدع ، هو ما خطه ” فيكتور هيجو ” قائلا :
لا ينقص قيمة الجمال أن يخدم الحرية ، وأن يعمل على تحسين الجموع البشرية ،
إن الشعب المتحرر ليس قافية رديئة ،
والفائدة الوطنية أو الثورية لا تنتزع شيئا من الشعر .
بذلك المعنى رأيت المخرج التلفزيوني ” سيف الدين حسن ” .. مثالا أعلى في امتلاك  أدوات الفن الباهر بنبل المسؤولية الوطنية . وقدرته في الإشتغال على تصوير المعادل الموضوعي للواقع ومشهديات السودان وظروفه وانتاج المعنى العميق للوطن بعثا للإيمان به والإنتماء إلى ثقافته .
كان – ولا يزال –  سيف الدين حسن يعمل وبتطور مستمر على إنتاج فني تتمظهر فيه مطلوبات واقع السودان ، وأسئلته وأقداره وتحولاته ، إنعطافا واستقامة .
ولا يقف عند ذلك الحد في إلتزامه ، بل يدعوا ويحفز رصفائه المشتغلين في فن الإخراج التلفزيوني وكتاب السناريو للدخول بتصورات مخيالهم المبدع في دائرة الجيش السوداني والإنفتاح عليه وهو يواجه الآن أشرس المعارك وأقواها مدافعا عن حدود السودان الشرقية واسترداد ” الفشقة ” من غربتها واغترابها عن الوطن وشعبه .
فالفن عند سيف الدين حسن ليس غاية في حدود ذاته ، وليس نشاطا محايدا ، وإنما الفن في خدمة الحياة ، أو هو الوسيلة الحاذقة والماهرة على مد خطوط الحياة وتصويرها . أنها ليست مجرد فعل جمالي برئ أو زينة نتخذها في الحياة ، بل هي في موقع الأهمية بمكان وبمثابة حقول واسعة لنشاط الإنسان وصراعته المتجذرة في كل جوانب حياتنا اليومية . إذ يستدعي ذلك من أن له رؤى تتناسق والسياق الثقافي وباعثا للإحياء والنهضة والتقدم .
وذلك هو ” سيف الدين حسن ” أحد أعظم المشتغلين بالإنتاج الفني ، متفردا بالأفلام الوثائقية ، أبدعها كملاحم أعاد فيها كتابة تاريخ ” أرض السمر ” وطموحاته وتوق إنسانه هذا التوق الذي يدفع إلى الصراع على كل الجبهات من أجل حياة أجمل وطن أفضل . كما أنتج ” ملحمة الجيش والتي أبدع في إحكام بناءها وشمول رؤيتها وشفافية التعبير الباحث المتحري في إنشداده الباذخ إلى صور مشهديات التضحية والفداء لجيشنا وأبطاله الأوفياء .
ذكرت في مقال سابق وقلت في مواضع أخرى ولا أزال أقول أن ” سيف الدين حسن ” .. إبداعه له طعم خاص لا يشبه أحدا ، وأنك حين تشاهد عملا من أعماله ، تحس أنك أمام مخرج مبدع آخاذ ، تخرج الصورة من شاشة التلفزيون إلى قلبك مباشرة .
وهو عندي إحد علامات الإبداع الثقافي السوداني الحديث الشاهقة ، ورمز من رموز الإبداع التلفزيوني لا في السودان فحسب ، بل في فضاءات الثقافة الإفريقية والعربية ،
ومن آيات ذالك الكثرة الغالبة من  الجوائز التي حصدها في مهرجانات الفضائيات العربية والإفريقية ،
فما من مسابقة دولية دخل فيها إلا ونال الجائزة الكبرى .. وطالت قامته كل المخرجين العرب والأفارقة الذين وقفوا أمامه في مسابقات الإنجاز التلفزيوني على امتداد أوطاننا في إفريقيا وعالمنا العربي .
وما يميز أعماله أنه غني للسودان وتغنى به ففي كل عمل من أعماله ، رائحة الأرض – صحراء وغابة –  تملأ أنفك ، يكشف عنها بشكل خاص ، أمزجة الناس وثقافاتهم بتعدد روافدها ومكوناتها المتباينة ، والأمكنة بكل تفاصيل تضاريسها ومناخاتها .
فهو يقدم السودان وثقافته الإفريقية العربية بنظرة متوازنة قل نظيرها بين أنداده ، تفصح عن عمق التصالح الداخلي واتساع الرؤية لديه .
وهنا تأتي الإنعطافة المركزية في رؤية سيف الدين حسن للشخصية السودانية والتي يماثل فيها رؤية الكاتب الأديب جمال محمد أحمد صاحب النظرة المتسامحة المتصالحة التي تنهض على الإنفتاح والإستيعاب لا على النفي والإقصاء والإبعاد وذلك وفقا لتعبير الناقد ” عبدالمنعم عجب الفيا ” مشيرا إلى سؤال الصحفي المصري ” مفيد فوزي ” قائلا :
* ماهو أسخف سؤال مر بك ؟
فأجابه جمال محمد أحمد  بقوله :
” هذا السؤال السمج هل السودان عربي أم أفريقي ؟ وكنت أقول لعل عبقرية السودان تكمن في محتوى السؤال ،
وسخف السؤال يكمن عندي ، في أن سائله يذهل عن عبقرية كينونة المكان وخصوصيته ويستبطن سؤاله الإجابة بأحد الخيارين : إما هذا ، وإما ذاك ! النظرة العوراء عينها التي عناها مصطفى سعيد ، بطل موسم الهجرة إلى الشمال مخاطبا أصحابها : إلى الذي ينظرون بعين واحدة ، فيرون الأشياء ، إما سوداء ، وإما بيضاء ” .
تلك الرؤية المتوازنة لواقع الثقافة السودانية عند جمال محمد أحمد ، هي عينها ، رؤية المخرج الفنان سيف الدين حسن وذلك ما جعله وفي كل أعماله الفنية التلفزيونية أن يستصحب المعطى الثقافي في الكل المركب بتعيناته المتشابكة .
وسيف الدين حسن ، جدير بأن نوقد الحروف إحتفالا به ، وأكثر ، وبهذا الدرج العالي الذي تسنمه بحق وجدارة .
ألمس وأشهد له طوال زمالتي ورفقتي له أنه مخرج صاحب ملكة إبداعية متكاملة ، يعنى بالقيمة الفنية والقيمة الموضوعية في آن ،
رأيت في كل منجز فني له ، فيض زاخر من الأفكار والأطروحات المبتكرة المتجددة ، ويطربك بصور مشهدياته في الوقت ذاته بشاعرية الصورة ولطافتها التي تتسم بالقدرة الباهرة في تكويناتها البصرية الموحية وكأنها نسيج شعري شجي مرهف ، مكتسيا بوهج الفن الصادق الآخاذ .
وبذلك يمكن القول أن سيف الدين حسن في نسج أعماله تلك إنما يعبر عن فكر عن فيض وافر من التجارب ، إستودعها في ذاكرته وتأملها واستكشف دلالاتها وفجرها بمخياله الباهر عملا جديدا مبدعا فيه قسمات أوجه أهل السودان ومياسمهم ناقلا للناس واقعهم ، لا بآلة التصوير المقفلة الصماء ، إنما يمتح فيها إحساسه الأرحب والأعمق وفكره ومشاعره .
إن الناقد المتأمل لوثائقيات سيف الدين حسن وأفلامه التسجيلة ، لا مراء سيقرأ هذا الثراء الفكري والفني المؤسس على أصالة الفكر ، وثراء التجربة في شتى حقول النشاط الإنساني السوداني ، واستقراءه وتحليله واستجلاء واستنباط دقائق حياة الإنسان السوداني بمخيال رحب واستبصار محب بتكوين بصري شاعري مؤثر مائز بكل عناصر الإدهاش والتشويق في جزالة موحية باهرة مطربة للوجدان .
ويقرأ الناقد أن سيف الدين حسن من أميز المخرجين الذين يبالغون في العناية بالصورة وعبقرية لغتها ، وحسن توظيفها ، واستدرار دلالات معانيها ، بديلا عن اللغة الملفوظة مستغنيا عنها في اغلب مساحات المنجز الفني ،
وذلك لقدرته الفائقة في إنتقاء الصور بما يجعلها متسقة مع بعضها البعض ، فيجعل لها جرسا ونغما ، تغني عن أي حاجة للكلمة الملفوظة ومحفوظاتها المألوفة والسائدة .
بهذا ذهب ” سيف الدين حسن ” مصورا رؤاه وناظما جملته الإخراجية بأن الإبداع الثقافي هو ساحة للصراع ، فبالضرورة لكل منتج فني له خطابه ورؤاه وتصوراته ضمن النسق أو السياق الثقافي في كتلته الإجتماعية مبدعا معها في الحياة .
والناظر المدقق إلى صورة السوداني ، يجد أن أكثر ما يؤرقنا هي حالة التجريفات الرهيبة في بنى مجتمعاتنا وشخصيتنا الثقافية .
أن الصورة والحركة المعبرة عن الزمن الثقافي ، يدفعنا إلى مستوى عالي من التفكير في مسألة الحاجة للإيمان والإنتماء للوطن . فالإبداع يهدف دائما إلى إعطائنا صورة لما نؤمن به .
فإذا كان علينا أن نؤمن بأن أجسادنا هذه هي دالة الحياة ، ومن ثم نشهد بعالم الحياة – أي الإيمان بالعالم – فوجودنا في العالم إنما يعززه الإيمان أولا بالوطن وثقافته ، فالوطن هو ما يمنحنا شخصيتنا الثقافية .
والشخصية الثقافية ضرورة معادلة للوجود والإستمرارية لكونها المرتكز والمرجع في عمليات التشريع والتخطيط للواقع والمستقبل .
بيد أن كثرة المنعطفات والتحولات في كيمياء حياتنا السياسية والإقتصادية والثقافية أفرزت حالة إنكسار وشتات تذهب باتجاه ضرب النسق القيمي الجماعي المشترك .
حالة رهابية جبرية تطمس الشخصية السودانية وتقتل جذوة الود والمحبة والسعة واحترام بعضنا البعض .
إن دعوة المخرج التلفزيوني ” سيف الدين حسن ” للمشتغلين بالإبداع الثقافي الإنحياز للجيش السوداني وفي هذا الوقت الإستثنائي ، إنما يمنحهم مستوى جديدا للتفكير وفكر جمالي بالدرجة الأولى بل وثقافي وأخلاقي أيضا ، يشبع حاجتنا إلى الإيمان بالسودان تراثا وثقافة وفكرا .
” نشر في جريدة القوات المسلحة يوم الخميس 18محرم 1443هجرية الموافق 26أغسطس 2021م “

          
قد يعجبك ايضا
تعليقات
Loading...