عبدالحفيظ مريود يكتب: خاطر جارح
بدون زعل
خاطر جارح
دائماً أعود إلى موسى حامد محبة مترعة..
وفي الحاج يوسف، يجاور أهل موسى حامد رجل بسيط من غمار الناس من سمته أنه من “ناس الغرب”، ينتمي إلى الطريقة التجانية. منصرف – بشكل رئيس – إلى أوراده وأذكاره.. زوج ابنته الوحيدة لرجل عجيب، يسومها سوء العذاب، مع أنها أنجبت له ولدين وبنتاً.. بين الحين والآخر، تعود إلى بيت أبيها، حين يشتد عسف زوجها.. مضروبة، دامية.. باكية، شاكية..
الرجل من غمار الناس، يجلس نسيبه، زوج ابنته، حين يأتي مراجعاً.. يقدم له النصح، يعلمه كيف يعامل النساء، يخبره أنه – وهو والدها – لم يضربها، قط..
يبدو على الزوج الاستيعاب، يعتذر، ويقتاد زوجته وأولاده ويعود إلى منزله.. لكن يمر شهران، فتعود الزوجة إلى أبيها مضروبة باكية.. حالها يحنن.. تجرجر أطفالها.. يطايبها الأب، ويجلس إلى أوراده.
شايف كيف؟
بعد يومين ثلاثة، يسمع الرجل، من غمار الناس ذاك، طرقاً على الباب.. يقوم ليفتح.. يجد زوج ابنته واقفاً – كالعادة – يريد أن يراضيها ويعيدها.. ممسكاً بمسبحته “دا إنت تاني؟ ياخ أمشي، أمشي، أمشي، أمشي”، يرفع يديه يؤشر له للمشي.. يمشي الزوج.. يعود الرجل ويغلق بابه..
يتناقل سكان الحي والجيران، أن فلاناً وهو عائد من الدمازين وجد الزوج في سنجة.. الأسبوع القادم يتصل عليه أحدهم فيجده في كسلا.. بعد شهر يخبرهم أحد إخوته أنه في الفاشر.. بعد أسبوعين يكون في دنقلا.. وهكذا..
تمر السنوات، والزوج طافش، هائم في بلاد الله على غير هدى.. لا يستقر في بلد أسبوعين متتاليين..
ما الذي أصابه؟
خاطر الرجل من غمار الناس..
لم يدع عليه.. لم يضربه.. طرده فقط “أمشي… أمشي.. أمشي”.. فصار مشاء..
شايف؟
المرأة الشابة في الإذاعة السودانية، استأجرت من “النقابة” كشكاً تبيع فيه الأكل البلدي.. كانت، من قبل ذلك، طباخة في إحدى كافتيريات الإذاعة، وقعت في عطاء لسيدة من العباسية.. لكنها اختلفت معها في الأجر، فغادرت..
ولأن الناس يأتون إلى هذه الكافتريا، بسبب الأكل الطاعم، فقد انتقل أغلب الزبائن إلى كشك فتحية، لعلمهم أنها من يقوم بالطهي..
ضايقها مسؤول “السلامة والتحكم”، طارداً إياها.. أخبرته أنها استأجرت الكشك من النقابة.. انتفش، وقال لها “لو ما جبتي عقد الإيجار بكرة..ح أكشح ليك حللك ديل”..
الصباح دخل الرجل الإذاعة ليجد خطاب فصله..
ذهبت إليها منتصف النهار، وقد باعت كل طعامها، وتتأهب للمغادرة..” طفشتي الراجل بشنو؟”..
قالت لي “أمبارح استفزاني وصغرني قدام الناس، وأنا عارفة اللازيهو منو.. زعلت زعل شديد.. طبخت حاجاتي.. صليت الصبح حاضر وقريت سورة يس.. قلت ليهو: يا الله كان أنا بت حلال من أمي وأبوي.. توريني فيهو قدرتك.. وجبت عقد الإيجار وجيت.. بالله ما أمهلوه يجيني بي جاي عشان يسأل منو.. بقى في رقبتو دي”..
شايف كيف؟
أعرف أعراباً من قبيلة “الصبحة”، ببحر أبيض، رعاة أبقار.. دخلوا مشروعاً زراعياً لمسيد لشيخ من المكاشفية، وحين اعترضهم الحيران ضربوهم وتركوا أبقارهم ترتع.. و” أعلى ما في خيلكم أركبوه”..
صباح اليوم الثاني كان الراعيان ميتين بحادث حركة.. دهستهم سيارة وهما يعبران الطريق الأسفلتي..
الحكايات كثيرة.. تملأ صفحات..
ثمة خواطر لغبش.. بسطاء تقلب حياتك رأساً عن عقب.. أصحابها يعرفون أن خواطرهم تتحقق.. تلحقك أمات طه.. يحبسونها.. يجاهدون لكيلا يتسرب غضب ما، إليهم.. “يموت الناس مرة واحدة، ويموتون في اليوم ألف مرة بمغالبة أهوائهم وشهواتهم”..
لعل ذلك ما يجعل العرفاء الراسخين يذهبون إلى أن الصوم، “صوم الخواص” ليس هو صوم الجوارح، وحسب.. وإنما “صوم الخاطر”.. أن تمسك الخاطرة، وتكافحها.. تنازلها قبل أن تتحقق، تصير واقعاً.. حتماً مقضياً..
وهو “رب أشعث أغبر ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره”..
ولأنه يعرف ذلك.. فإن غالبيتهم يتجنب الخاطرة الغاضبة.. فـ” من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب”، كما ورد في الحديث القدسي.. يمحقك بخاطرة، لم تبلغ مرحلة الدعاء والقسم على الله..
شايف؟
الرجل ألح على شيخه أن يعلمه “الاسم الأعظم”.. وبعد إصرار، طلب منه شيخه أن يرابط عند مدخل كبري “شمبات”، ويلاحظ الشيء الشاذ، ويعود ليخبره به.. عاد غداً.. ولم يلحظ شيئاً غريباً، لكنه أخبر شيخه أنه “قريب المغربية” كان هناك رجل كبير يحاول أن يعبر الكبري على ظهر حماره.. اعترضه العساكر.. ترجاهم فرفضوا عبوره.. انتهروه، وأفرغوا “مخاليه” التي كانت ملأى بالحشائش.. سأله الشيخ ” لو كنت مكانو، ومعاك الاسم الأعظم، كان عملت شنو؟”.. أجابه “كان مسحتهم من الواطة”.. أجابه الشيخ “الراجل العجوز داك، الراكب الحمار، هو العلمني (الاسم الأعظم).. لو ما بتقدر على غضبك زيو.. أمش سااااي.. ما بعلمك”..
شايف كيف؟
وثمة خواطر أخرى جارحة..
شعريا.. والشعراء أغلبهم شفاف.. شواف.. نصف ولي..
لذلك يتركون الشعر ويسلكون طرقهم الخاصة الواصلة “واسلك بي إلى محبتك سبيلاً سهلة، أكمل لي بها خير الدنيا والآخرة”.. الفيتوري.. محمد عبد الحي.. عوض أحمد خليفة.. عبد الوهاب هلاوي.. التجاني حاج موسى.. وآخرون..
عاطف خيري، في “خاطر جارح” قال:
“…وإنتي ماشة، يعترك جواي أسف”.