شقلاوي يكتب:زيارة القاهرة وهندسة مشهد التسوية المحتملة..!

وجه الحقيقة

إبراهيم شقلاوي

جاءت زيارة رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة أمس في لحظة سياسية حرجة, و تحولات إقليمية متسارعة وضغوط دولية متجددة لإنتاج تسوية تنهي الحرب في البلاد.

لقد حملت هذه الزيارة التي تمت بدعوة رسمية واستقبال رئاسي في قصر الاتحادية، أبعادًا تتجاوز الطابع البروتوكولي، لتدخل مباشرة في صميم المعادلات الجيوسياسية الجديدة في المنطقة ، خصوصًا بما يتعلق بمستقبل السودان وموقعه ضمن التوازنات الإقليمية والدولية.

لقاء الرئيسين جاء في إطار حراك دبلوماسي مدروس، يهدف إلى إعادة ترتيب التحالفات استعدادًا لاجتماع الآلية الرباعية المنتظر في واشنطن خلال أكتوبر الجاري، بحسب بيان الرئاسة المصرية وهو ما لم يتطرق إليه وزير الخارجية السوداني محي الدين سالم في تصريحاته عقب الزيارة، حيث قال ان الزيارة شملت تقديم التهاني للرئيس السيسي على النجاح الذي حققته قمة شرم الشيخ . وشكر مصر على مواقفها الثابتة تجاه السودان في مختلف المجالات. و الأوضاع الإنسانية المأساوية في الفاشر وغيرها من المدن التي تحاصرها المليشيا المتمردة.

البيان المصري الرسمي أكد على دعم وحدة السودان ورفض أي كيانات موازية للحكومة الشرعية، كرسالة واضحة بدعم الجيش والحكومة السودانية في مواجهة المليشيا المدعومة إقليميًا. حيث تعتبر مصر الحرب تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خصوصًا في ظل تصاعد النفوذ الإقليمي لقوى لا تتوافق مع رؤيتها لمستقبل السودان.

اللقاء الذي ضم قيادات أمنية رفيعة من الجانبين، تناول بعمق تطورات المشهد السوداني ومستقبل مبادرة الآلية الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، والمقرر أن تجتمع في واشنطن في 27 أكتوبر 2025م . وفقا لذلك ، تبدو الزيارة جزءًا من حراك تكتيكي واستراتيجي يتجاوز التصريحات الرسمية نحو إعادة التموضع السياسي .

اللافت تزامنت الزيارة مع تصعيد ميداني ، تمثل في هجمات جوية نفذتها مليشيا الدعم السريع بطائرات مسيّرة على مواقع استراتيجية أمس وأمس الأول في الخرطوم وشمال كردفان. هذا التزامن، يأتي ضمن تكتيك متكرر ظلت تتبعه المليشيا، حيث تستبق المحطات السياسية بعمليات عسكرية للضغط السياسي علي الجيش والراي العام لكسب أوراق تفاوض جديدة.

في المقابل جاء الرد العسكري من الجيش السوداني سريعًا ومركّزًا عبر عمليات دقيقة في مدينة نيالا، استهدفت مقار حساسة للمليشيا وأوقعت خسائر فادحة . هذا التوازي في التصعيد يعكس تكتيكًا مزدوجًا: إعادة التموضع الميداني قبيل أي تسوية دولية محتملة، وتأكيد أن القيادة العسكرية السودانية ما تزال تحتفظ بهوامش مناورة فاعلة رغم الضغوط الخارجية.

كما أحرز الجيش السوداني خلال الأسابيع الأخيرة تقدمًا ملحوظًا في محور كردفان، وهو محور استراتيجي يجاور ولايات دارفور التي تسيطر عليها المليشيا، مما يمنحه ميزات ميدانية جديدة تضغط على قيادة الدعم السريع وتعيد صياغة حسابات الرباعية الدولية التي تتابع بدقة تحولات الميدان، باعتبار أن موازين القوة على الأرض ستنعكس حتمًا على طاولة التفاوض.

وفي السياق ذاته، نجح سلاح الطيران السوداني خلال الأسبوعين الماضيين في تنفيذ عمليات إسقاط جوي دقيقة للمؤن والمعدات العسكرية إلى القوات المحاصَرة داخل مدينة الفاشر. هذا الإنجاز يعكس تحسنًا واضحًا في كفاءة العمليات، ويمنح القيادة العسكرية دفعة معنوية أمام المجتمع الدولي، كما يصعّب على المليشيا تحقيق نصر ميداني في الإقليم.

تتداخل هذه التطورات مع دور الآلية الرباعية التي تمثل توازن المصالح بين الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، حيث تمتلك كل دولة رؤيتها الخاصة لمستقبل السودان. ففي حين تدفع واشنطن نحو تسوية شاملة تضع حدًا للحرب، تواجه الإمارات اتهامات علنية من الحكومة و الشارع السوداني بدعم مليشيا الدعم السريع. وهنا تكمن معضلة القيادة السودانية، التي تجد نفسها مطالَبة بالانخراط في تسوية تدعمها هذه القوى دون أن تفقد تماسك الجبهة الداخلية أو تُتهم بالتفريط في الثوابت الوطنية.

من هذه الزاوية تبدو زيارة القاهرة محاولة لإعادة ترسيم خطوط الدعم الإقليمي وتحديد مَن يقف مع السودان ومَن يقف ضده في خضم حرب معقدة الأبعاد. كما أنها تعكس رغبة في تنشيط التحالف مع مصر، في مواجهة الضغوط التي تمارسها أطراف داخل الرباعية.

كما تناولت المباحثات ملف سد النهضة، الذي يمثل نقطة إلتقاء رئيسية بين القاهرة والخرطوم وورقة ضغط ذات طابع استراتيجي في التفاوض مع إثيوبيا. فالتأكيد المشترك على رفض الإجراءات الأحادية في النيل الأزرق يعكس رغبة في استعادة التنسيق المائي والسياسي بعد فترة من التباين، خاصة عقب اتفاق تبادل المعلومات الفنية الذي وقّعه السودان مع إثيوبيا عام 2022 وأثار تحفظات مصرية.

وسط كل هذه التفاعلات، يبقى الشارع السوداني هو المتغير الأهم والأكثر حساسية. فقد أصبح جزءًا كبيرًا من السودانيين ينظر بريبة إلى أي مبادرة دولية لا تعبّر عن إرادتهم، خصوصًا بعد تجربة الاتفاق الإطاري الذي مثّل – في نظر كثيرين – الشرارة التي أشعلت الحرب الحالية، حين فُرض فوقيًا برعاية الرباعية بمعزل عن التوازنات الواقعية على الأرض.

من ثم تواجه القيادة السودانية تحديًا مزدوجًا: إما أن تنجح في تحويل هذا الحراك الإقليمي إلى مكسب استراتيجي يعيد للدولة تماسكها وللمؤسسة العسكرية سيطرتها ، أو أن تخسر رصيدها الشعبي إذا ما تبيّن أن التسوية الموعودة لا تعدو أن تكون انحناءة تحت ضغط الرباعية، خصوصًا إذا تجاهلت العدالة والمحاسبة أو منحت المليشيا شرعية أمنية أو سياسية جديدة.

إن نجاح أي مسار تسوية يظل مرهونًا بثلاثة عوامل رئيسية: أن يفرض الجيش السوداني واقعا ميدانيًا مستقرا. بالإضافة إلى الحفاظ على التحالفات الإقليمية دون التفريط في السيادة الوطنية. كذلك صياغة تسوية مرنة تراعي الإرادة الشعبية و تعويضات المتضررين والتوازنات الداخلية.

إنها لحظة فارقة. فإما أن تمثل الزيارة بداية طريق السلام المعبر عن الواقع السوداني المعقد، أو تكون مقدمة لانحناءة تحت الضغوط الدولية قد تفقد معها القيادة العسكرية رصيدها الشعبي، في مواجهة مليشيا لا تزال تمارس انتهاكات واسعة، بدعم إقليمي ودولي لا يمكن إنكاره.

ختامًا بحسب #وجه_الحقيقة فإن اللحظة السياسية التي تمر بها البلاد لا تحتمل المناورات. فبين التصعيد الميداني، والتحركات الدبلوماسية، وضغط الرأي العام، يقف السودان أمام مفترق طرق حقيقي. إما أن تسفر زيارة البرهان إلى القاهرة وما سيتبعها، عن ترتيبات سلام تُعيد للدولة تماسكها، وللمؤسسة العسكرية سيطرتها، وللشعب ثقته، أو أن تكون مجرد محطة عابرة في طريق مخزي يُكرّس الانقسام وسط الشعب والمؤسسات الوطنية، ويفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الخارجية في شؤون البلاد.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 16 أكتوبر 2025م

Shglawi55@gmail.com

السيسيزيارة القاهرةشقلاويقناة الزرقاءلابرهان
Comments (0)
Add Comment