شقلاوي يكتب : الطارئون على التاريخ

وجه الحقيقة

إبراهيم شقلاوي

في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، الذي يحمل على كتفيه سبعة آلاف عام من الحضارة، لم تعد البلاد تحتمل الوقوف في المنطقة الرمادية، ولا تقبل أن تُصادر إرادتها من قبل الوافدين على مشهدها السياسي والتاريخي. الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 وضعت الجميع أمام اختبار أخلاقي وسياسي لا يقبل المواربة أو التسويف، إما مع السودان الموحد ذو السيادة، أو مع أجندات التشظي والارتهان.

في هذا السياق بدت خطوة دولة قطر بإعادة افتتاح سفارتها في الخرطوم كأول بعثة دبلوماسية تعود إلى العاصمة المحررة، بمثابة رسالة سياسية عميقة، تتجاوز حدود التمثيل الدبلوماسي إلى تأكيد الاحترام لسيادة السودان ووحدته، وتعكس رؤية تستند إلى ثوابت شراكة حقيقية لا تزعزعها التحولات العابرة ولا التكتيكات البائسة. زيارة السفير القطري محمد بن إبراهيم السادة لمقر السفارة ورفعه لعلم بلاده في قلب الخرطوم، وسط أنقاض الحرب، كانت بمثابة موقف رمزي وسيادي، قرأه المراقبون على أنه إعلان مبكر لعودة العواصم الإقليمية إلى التفاعل مع السودان من داخل ساحته لا من خارجه.

وما أضفى بعدًا أخلاقيًا على هذا الموقف، كان ما جاء على لسان وزيرة التربية والتعليم العالي القطرية . الدكتورة لؤلؤة الخاطر في ندوة التحديات التي تجابه الآثار والتراث في السودان أمس الأول، التي تساءلت في خطاب تم تداوله بكثافة على وسائل التواصل: “كيف يمكن لهؤلاء الطارئين على التاريخ أن يجرؤوا على تغيير وجه الحضارة؟” مؤكدة أن هناك ماهو أغلى من أن يشترى بالمال وأن المال لا يصنع التاريخ، وأن حضارات كرمة وكوش ومروي وجبل البركل، تقف كجدار أخلاقي أمام القبح لأن البقاء للأجمل ” . هذا الخطاب، يلخص ببلاغة معركة السودان الجوهرية التي أدركها الأذكياء، معركة ضد التشويه والتزوير و الإختطاف، وضد هندسة مستقبل البلاد على مقاييس المصالح الخارجية.

وفي المقابل أعلنت وزارة الخارجية السودانية أمس الأول رسميًا فتح الباب أمام كافة البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية لاستلام مقارها بالخرطوم، في خطوة تعكس رغبة الدولة السودانية في تطبيع العلاقات الخارجية من قلب عاصمتها، وليس من منابر دولية بديلة. هذا الإعلان الذي تزامن مع تحرير الخرطوم من قبضة المليشيا المتمردة، يحمل دلالة سياسية واستراتيجية: فالعاصمة ليست مجرد جغرافيا محررة، بل فضاء رمزي لسلطة الدولة، وعودة السفارات إليها تعني اعترافًا ضمنيًا بالانتقال بالبلاد الي مرحلة جديدة كاملة السيادة.

ولعل التوقف عند تاريخ العلاقة السودانية القطرية يكشف مسارًا متزنًا، وإن شابه بعض الارتباك بعد سقوط نظام البشير، في العام 2019، إلا أن قطر لم تنزلق إلى مربع الخصومة أو الاستثمار في الفوضى، بل ظلت ثابتة على خطاب داعم لاستقرار السودان. حادثة إرجاع طائرة وزير خارجيتها في أعقاب الثورة، رغم كونها إشارة سياسية حادة آنذاك، لم تمنعها من مواصلة دعم السودان عبر مسارين متوازيين: مسار السلام، كما تمثل في رعايتها لاتفاق دارفور في العام 2011؛ ومسار الدعم الإنساني ، الذي استمر خلال الحرب الراهنة دون ضجيج إعلامي.

إن الموقف القطري المتماسك تجاه السودان يعكس قراءة استراتيجية تدرك أن الخرطوم ليست فقط عاصمة سياسية، بل بوابة إقليمية لها تأثير على موازين القوة في المنطقة. وبالتالي، فإن قطر تعيد اليوم تموضعها في المشهد السوداني عبر بوابة السيادة، لا عبر التحالفات الظرفية أو الاصطفاف مع قوى خارجة عن الشرعية، كما يفعل آخرون.

وبالنظر إلى حالة الاستقطاب الحاد في الإقليم، فإن ما حدث يمثل نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”الدبلوماسية السيادية”، التي لا تفرض وصايتها، بل تراهن على التاريخ المشترك والمصالح المتبادلة. وهو ما يجب أن يكون القاعدة في التعامل مع السودان لا الاستثناء.

إن الحرب السودانية بكل ما تحمله من مآسٍ، نجحت في فرز المواقف بوضوح. ولم تعد الشعارات قادرة على التغطية على النوايا. وعلى هذا الأساس، فإن السودان، الذي صمد رغم الألم، لن يسمح لمن لم يعرف تضاريسه ولا آلامه أن يخطط لمستقبله. فالحضارات لا تُصاغ في غرف العمليات، ولا تُختزل في بيانات ركيكة، بل تُكتب بدماء أبنائها، وتُصان بمواقف الحلفاء الذين يعرفون أن للسيادة ثمناً، وللتاريخ ذاكرة.

هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة ، لم تكن زيارة السفير القطري للخرطوم مجرد خطوة دبلوماسية، بل موقفًا سياسيًا وإنسانيًا بليغًا، يعيد تعريف التحالفات في زمن المحن. فالذين شاركوا السودان وجعه اليوم، هم من سيشاركونه غده الواعد . وفي كلمات الوزيرة لؤلؤة الخاطر، إدانة واضحة لمحاولات تزوير الجغرافيا والهوية، وتأكيد على أن المال لا يصنع تاريخًا، ولا يُنبت كرامة في أرض لم تُروَ بالدماء والتضحيات. السودان اليوم لا ينتظر الحياد، فقد تلاشت المنطقة الرمادية، والشعب المنتبه بعد فاجعة الحرب صار يقرأ المواقف كما تُقرأ الكتب المفتوحة. إنها لحظة كاشفة، وعلى الجميع أن يحدد موقعه منها، لأن الخرطوم التي تنفض غبار الحرب، ستسجل في ذاكرتها من وقف معها… ومن تخلّى.

دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 22 أبريل 2025 م Shglawi55@gmail.com

السودانالطارئون على التاريخشقلاويقناة الزرقاء الرئسية
Comments (0)
Add Comment