شقلاوي يكتب : سيدي الرئيس .. حربنا ضد النسيان

وجه الحقيقة

إبراهيم شقلاوي

في خضم الحروب لا يعلو صوت فوق صوت المعركة، لكن التاريخ لا يُكتب ببسالة الرجل وزخات الذخيرة وضجيجها فحسب. فكل حرب مهما اشتد سعيرها وعظمة ابتلاها، ستنتهي يومًا ما، لتبدأ معركة الذاكرة المنتبهة ، حيث يُعاد ترتيب الأحداث، وتُسطر الروايات، ويُحسم الصراع على الحقيقة.

ومن هنا فإن التوثيق في زمن الحرب لا يُعد ترفًا معرفيًا، بل هو فعل مقاومة ، وصراع موازٍ ضد محاولات الطمس والتزييف بدأ بسرديات الحرب التي بدأت بانقلاب طامع في السلطة والدولة يحاول البعض طمس حقيقته، وانتهاء بأؤلائك الذين صمدوا لأجل حفظ البلاد و استعادة الأمن وتحقيق السلام للسودانيين. ومما يزيد من خطورة غياب التوثيق أن المجتمع السوداني – بطبيعته – ذو نزعة شفاهية، يميل إلى تداول الرواية شفاهة لا كتابة، وإلى حفظ التاريخ في الصدور لا في السطور.

وقد كانت هذه السمة الثقافية في أزمان الاستقرار مظهرًا من مظاهر الثراء الشفاهي والتناقل السردي، لكنها في زمن الكوارث والحروب تصبح عائقًا خطيرًا أمام بناء سردية موثقة يمكن الاعتماد عليها في مسار العدالة الانتقالية واستعادة الحقوق. إن غياب ثقافة التوثيق الكتابي جعل كثيرًا من الأحداث المصيرية في تاريخ السودان تُروى بألسن مختلفة، فتتضارب الروايات، ويضيع أثر الحقيقة في الزحام.

منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023، والبلاد تواجه موجة غير مسبوقة من الدمار الممنهج. لم تكتف مليشيا الدعم السريع بارتكاب الفظائع على الأرض، بل سعت بوعي تدميري إلى محو كل ما يُمكن أن يشكل ذاكرة جماعية : حُرقت المؤسسات التعليمية، و الإعلامية نُهبت دور الثقافة، والمكتبات والمتاحف وهُدمت مقار الوزارات والوثائق، مارست جريمة مركّبة تستهدف الحاضر والمستقبل على حد سواء. ذلك أن ما يُمحى من الذاكرة اليوم، لن يُستعاد بسهولة غدًا، وما يُهمل توثيقه سيتحول إلى فراغ تستغله الروايات المزيفة. إن التوثيق لا يقتصر على جمع الصور أو سرد الأحداث، بل يتجاوز ذلك إلى بناء رواية متكاملة تعبّر عن جوهر ما حدث، وتُحافظ على المعنى من التلاشي، وتُسهم في تحقيق العدالة بعد الحرب.

إنه التزام أخلاقي وسياسي، تشترك فيه مؤسسات الدولة، والإعلام والمجتمع المدني، والمبدعون وأصحاب الشهادات الحية من الضحايا والناجين. فكما تتقدم الجيوش في الميدان، يجب أن تتقدم الكاميرات والأقلام في جبهتها الأخرى، جبهة الوعي والتوثيق.

ما يحدث في السودان ليس صراعًا عاديًا على السلطة كما أدعي البعض، بل محاولة لخلخلة بنية الدولة الوطنية، وتدمير ركائزها، بدءًا من الجيش والمؤسسات، ووصولًا إلى الذاكرة.

ولهذا فإن المعركة ليست فقط على الأرض، بل أيضًا على الورق وفي الصورة وفي الصوت وفي النص والدراما، في كل ما يخلّد الحقيقة وينقذها من الفناء. نحن لا نُقاتل فقط لأجل النصر، بل لأجل أن نُثبت أننا كنا هنا حيث الصمود والفداء وحماية الدولة والكيان، وكانوا هناك حيث المؤامرة و الانكسار والخذلان وأننا قاومنا، مع جيشنا الباذخ مشروع استعماري متجدد و لم نصمت أمام الخراب.

في لحظات الابتلاء الكبرى، تُولد مسؤوليات جديدة. فالمعلم الذي يدرّس في مدرسة مدمّرة، والصحفي الذي يوثق وسط الخطر، والكاتب الذي يُحوّل المأساة إلى شهادة قانونية ، والمؤرخ الذي يحفظ ذاكرة التاريخ، جميعهم جنود في معركة التوثيق والكرامة. وعلى الدولة أن تحتضن هذه الجهود لاحقًا، وتُحولها إلى سجل وطني شامل، يعيد للسودانيين ثقتهم بتاريخهم، ويصون حقهم في العدالة، ويمنع تكرار الكارثة والحرب من جديد .

ما لم نُوثقه اليوم، سيتحول غدًا إلى رواية ينطق بها الخصم، ويتلقفها العالم كحقيقة. ومن لا يملك ذاكرته، لن يملك مستقبله. لذلك فإن التوثيق ليس مجرد رد فعل على الألم، بل هو فعل إرادي واعٍ نرسم به صورة وطننا الجريح كما هو، بكل قسوته ونبله، بكل ما ضاع وما بقي. لا يكفي أن ننتصر، بل لا بد أن نروي كيف انتصرنا، لأجل الأجيال القادمة ولماذا صمدنا، ومن كان معنا ومن كان ضدنا ومن كان رماديا ومن أراد اقتلاع جذورنا من أرضنا.

عليه وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة فإن التوثيق الاستراتيجي ليس مجرد مهمة لتسجيل الأحداث، بل هو خطوة جادة نحو بناء ذاكرة وطنية جماعية قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية.

في السياق السوداني حيث يغلب الاعتماد على الذاكرة الشفاهية، يتعين على الدولة، المجتمع المدني، والقطاع الخاص العمل بتضافر لتوثيق معركة استرداد جبل موية وقيادة الجيش و القصر الجمهوري كأحد أبرز فصول المقاومة الوطنية.

إن هذا التوثيق المهم يشكل جسرًا بين الماضي والحاضر، ويعزز من العدالة التاريخية، في وقت تتعدد فيه الروايات وتتناقض. لذلك، نوجه رسالة إلى الجهات المعنية، بدءًا برئيس مجلس السيادة والحكومة السودانية ، إلى ضرورة الإسراع في ” إطلاق مشروع وطني توثيقي شامل” ، يدعمه الإعلام والفن والمؤسسات الأكاديمية و البحثية، ليظل هذا الفصل الحاسم جزءً من تاريخ السودان الذي لا ينبغي نسيانه.. وليكون عظة وعبرة لهذا الجيل و للأجيال القادمة. دمتم بخير وعافية.

الإثنين 7 أبريل 2025 م

Shglawi55@gmail.com

إبراهيم شقلاويالبرهانالرئيسحربناضد الننسيانوجه الحقيقة
Comments (0)
Add Comment