رأس الخيط
عبدالله اسماعيل
سنعود إلى ظلال أشجار السوق العربي، إلى “البرندات” الممتدة حول مول الواحة. نجلس مع “ستات الشاي” في زوايا الذكريات الحية، نرتشف القهوة الساخنة وهي تسافر بنا نحو الأمان القديم. نعود ونتذوق العصيدة بملاح التقلية والنعيمية والكمبو عند *مريم كول،* حيث محلها يقبع في جحر قصي بالقرب من المجلس التشريعي لولاية الخرطوم، ذاك المكان الذي يتنفس دفء البسطاء وعرق الكادحين.
سيعود المسرح القومي، وستُضاء خشبته بنصوص جديدة تروي حكايات الحقيقة. هناك، سيقف *محمد المهدي الفادني* وزملاؤه من رهط المبدعين يقدمون مسرحية *“أحلام حميدتي الزائلة”* مسرحية تجسد قصة الصعود العشوائي، والطمع الأعمى، والجهل المستفحل، ثم السقوط المدوي إلى الدرك الأسفل. مشهدٌ سيظل محفورًا في ذاكرة الوطن، كدرسٍ لا ينبغي أن يُنسى.
ستعود *الجرائد للمكتبات،* والمجلات الثقافية على الأرفف تنتظر قراءها العطشى للكلمة الصادقة. سيعود الكتاب الصحفيون إلى أقلامهم، ينحتون على الورق كلماتٍ تحمل الحقيقة والضمير الحي، وتنير دروب الأمل. سيعود *عبداللطيف البوني* *“يحتطب ليلًا”* باحثًا عن الحكمة بين السطور، *والطاهر ساتي* يكتب *“إليكم”* ليشرح الواقع بجرأة القلم، بينما يؤدي *الهندي عز الدين* *“شهادته لله”* وينظر *ضياء الدين بلال* *“بعينه الثالثة”* الساحرة. هم وغيرهم من الكتاب سيعودون إلى مقرات صحفهم وكلٌ منهم يعبر بطريقته عن آلام الوطن وأحلامه.
وسيمتلئ رنين ضحكات *التلاميذ* في ساحات المدارس، حيث دفاترهم البيضاء تنتظر أيديهم الصغيرة لترسم ملامح الغد.
ستعود *الأسواق* إلى ضجيجها المعتاد، حيث أصوات التجار تتداخل مع خطوات المارة. سيعود *البناء والإعمار*، تُرفع أعمدة الأمل من جديد، وتُغرس أساسات راسخة لوطن اختار أن يقوم على أكتاف أبنائه الأوفياء.
سيعود *الطلاب* إلى الجامعات، يتدفقون إلى قاعات المحاضرات بأحلامهم الكبيرة وعزيمتهم الصلبة لبناء وطن يستحقهم.
سيعود الفنان المخلص لوطنه وفنه، *عاطف السماني*، إلى منصته. وسيعود برنامج *“أغاني وأغاني”* ليملأ ليالي رمضان بالنغمات التي تحمل للقلوب بهجتها وللذكريات نكهتها.
ستعود *صينية الغداء،* مؤطرة ب”الكسرة الرهيفة” وملاح “أم رقيقة”، وبجانبها صحن السلطة الخضراء.
وسيعود *”عمر بوش”* بفتته التي نفصّلها على الشية، وتعود مشويات *”أولاد أم درمان”، *”وآيسكريم لذيذ”* “كوارع *الموناليزا”* “وبروست *أمواج*”. وسيعود كل شيء كنا قد فقدناه بسبب الظالمين.
سيعود الإخوان، والإخوة، والجيران، والأصدقاء، والمعارف من مضارب الشتات التي اضطرّوا إليها هربًا من وعثاء الحرب ومآسيها وتكون الخرطوم خالية من *”الجنجويدي”* القاتل الذي يندم على فعلته، حين لا ينفع الندم.
لقد *زالت دنيا المليشيا وزال نعيمها،* وهذه الانتصارات تثبت فرضية واحدة:
*ما بُني على باطل فهو باطل.*
تلك القوة كانت هي *الخطأ الفادح في عزّ الصواب،* وكانت هي الخطيئة الكبرى.
*أمن الدول لا يُعهد به لأمثال هؤلاء الرعاع*.
*الجهل لا يحمي حقًا، ولا يحقق عدلاً، ولا يبني مجدًا.*
وذلك أكبر دروس تاريخنا الحديث…
ويجب أن نطبّق المثل الحق:
*وتُعطى القوس باريها، لا كاسرها.*
سنعود، ونكون قد تعلمنا الدرس:
*ألا نعطي الحق لمن لا يستحقه، وألا نجامل في قضايا أمن الوطن.*
الشعب أحق أن يخدم، والوطن أكبر، والله ناصر وباقٍ. ولا عزاء للطامعين.
*إن طريق العودة قد عَبَّدته دماء وأرواح الشهداء، وتضحيات الأبطال الذين ثبّتهم الله قبل أن يكتب لوطننا النصر.*
*سنعود،،،*
وفي ذات مشهد العودة، تتشابك الأقدار مع *الأصدقاء*.. *عمر شيخ الدين*، ذلك الكائن *المتمرد* من لدن *جون قرنق* وحتى *دانيال كودي،* لم يكن مجرد سياسي ينتمي للحركة الشعبية، بل كان رجلاً مثقفًا وقارئًا نهمًا، يعيش دوماً بين غلافي كتاب، يتنقل بين الكلمات كما يتنقل بين الجبال الوعرة والأفكار الثائرة. والموسيقار *أحمد المك*، ذلك الفنان الذي *علّمنا عبر ألحانه كيف *نفرح باعتصام،* وكيف نحيل الحزن إلى إبداع نقي، يسري في الأرواح كنبض الحياة.
*أصدقائي،* ها قد شارفنا على العودة إلى “ميدان *أميرة”،* حيث *“الشاي باللقيمات”* في ذلك الجزء الأليف من حي الإمارات، بينما يغشانا الكوميدي فخري، الرجل الذي إن لم يجد ما يضحكه، أضحك نفسه.
*هذه العودة ليست مجرد أحلام، بل هي وعدٌ يتشكل في ذاكرة الوطن، ينتظر تحقيقه يومًا بعد يوم