مالك محمد طه
*قد يسوء البعض أن توصف ثورة ديسمبر 2018 بأنها ثورة مصنوعة، لكن هذا الوصف غير بعيد عن الحقيقة، ومن يظن غير ذلك فهو معذور من واقع التكتيك العالي الذي اتبعه المخططون(في الخارج)للإطاحة بالبشير تحت مظلة ثورية.
* كان التخطيط محكماً والتكتيك عالياً بحيث أنه خفي حتى على مجموعة كبيرة من الضالعين في تنفيذ التغيير أو الانقلاب أو الثورة، ومن كان يشك في ذلك فليسأل؛ أين الذي أذاع البيان الأول؟ وأين مقرر المجلس العسكري؟وأين رئيس اللجنة السياسية للمجلس؟ وأين الذي زعم أنه هو من قاد التغيير؟..لقد انتهى دورهم الذي قاموا به ربما”بحسن نية”.
* في الواقع فإن غالب إن لم تكن كل التغييرات التي حدثت في المنطقة- وآخرها في سوريا- ليست محلية المنشأ، وفي هذا السياق تدخل ثورة ديسمبر السودانية، وتدخل كذلك محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها حميدتي مسنوداً بالخارج للاطاحة بالبرهان وكبار جنرالات الجيش في ابريل2023، وكان أحد أهدافها الرئيسة إجراء أكبر عملية إحلال وإبدال للقوات المسلحة، ليس في تاريخ السودان فحسب، بل في تاريخ القارة الإفريقية كلها، وتمضي الحرب الحالية التي تخوضها مليشيا الدعم السريع وتمخضت عن انقلابها الفاشل لتحقيق ذات الهدف، ولكن عبر المسار الأطول.
* قد يبدو غريباً القول إن هناك علاقة تضعف وتقوي بين كل التغييرات الكبيرة في الشرق الأوسط بمعناه السياسي الذي يشمل السودان، وبين القضية الفلسطينية، ولهذا كان من المستحيل أن يبقى البشير في الحكم إلى وقت كتابة هذا المقال، وهو يحمل ذات الرؤى والأفكار التي كان عليها تجاه القضية الفلسطينية، وظل عليها إلى أن تمت الاطاحة به.
وليس سراً أن البشير حاول تحت الضغوط الهائلة-بما فيها الضربات الجوية- أن يخفف موقفه من القضية الفلسطينية دون ان يتخلى تماما عن قناعاته المبدئية منها، ولكن ذلك لم يكن كافيا.
* عندما جلس البرهان مكان البشير وتسلم قيادة الجيش ورئاسة مجلس السيادة، وجد قضية التطبيع مطروحة على طاولة سلفه كأحد الشروط الأمريكية لما يسمونه”دمج السودان في المجتمع الدولي”، فظن الرجل أو توهم أن مصافحة نتنياهو بعيداً عن الكاميرات ستكفي السودان شر الزعازع وتكسر طوق العزلة، ولكن كان نتنياهو أشطر، فجيّر اللقاء لصالحه في الداخل الاسرائيلي، ولم يجن البرهان شيئاً، وماتت كثيرٌ من الأسرار مع موت مهندسة اللقاء التي لم يفلح الموساد في علاجها رغم الطائرة الخاصة التي أرسلت لها وعلى متنها طاقم طبي.
*
* لأمر ما لم يمض البرهان إلى نهاية الشوط في التطبيع، كما أنه أبدى قدراً عالياً من الحزم والإباء وهو يرفض في شمم وكبرياء دعوة الإدارة الأمريكية المنصرفة بالذهاب للتفاوض مع المليشيا في جنيف، فقد علمته التجربة وعصمه المد الشعبي والسند الجماهيري من الوقوع في الفخ، ولكن عاقبته الإدارة الأمريكية بتوصية من مبعوثها الخاص الذي كان يجمع تقاريره من النشطاء ومراهقي السياسة وصبية تنسيقية”تقدم”.
* في هذه المرة أبدى البرهان عدم اكتراثه بالعقوبات الأمريكية المفروضة على شخصه بالقول” إنه لن يأبه بأي عقوبات طالما كان يسعى في مصالح شعبه”، وهو تعليق منطقي لأن السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت تقوم في غالبها على “العصا”، ولذلك فإن البرهان لن يرى الجزرة مطلقا.