في مثل هذا اليوم السادس من يناير عام 1964 بدأ تهجير أهالي منطقة وادي حلفا (القديمة) إلى حلفا الجديدة بمنطقة خشم القربة بشرق السودان.
فبعد مقاومة عنيفة ورفض من جانب النوبيين لعملية التهجير أولا وإختيار منطقة خشم القربة ثانيا وبعد ضغوط هائلة من جانب حكومة عبود العسكرية رضخت الغالبية العظمى للأمر الواقع وبدأت عملية الترحيل إلى منطقة خشم القربة، بينما رفض البعض الآخر الهجرة في عزيمة وإصرار وتمسكوا بالبقاء بمنطقة وادي حلفا حول بحيرة النوبة بالمنطقة المغمورة وظلوا بها السنوات الطوال في ظروف قاسية حتى أعادوا بناء مدينتهم الجديدة على مقربة من المدينة المغمورة.
كان أول فوج من المهجرين يغادر إلى خشم القربة عن طريق القطار هم سكان قرية فرس غرب حيث تم تحميل أمتعتهم وأملاكهم المنقولة وحيواناتهم على عربات السكة حديد يوم 5 يناير 1964م. وغادر قطارهم يوم 6 يناير في وداع مهيب بين النحيب والبكاء فكان يوما مشهودا في تاريخ النوبة محفور في ذاكرة التاريخ وذاكرة النوبيين ووجدانهم، ثم تبعهم سكان سرة غرب بين 10 و 13 يناير. ثم توالت أفواج المهجرين من القرى الأخرى جنوبا حتى دغيم فضلا عن مدينة وادي حلفا. واكتملت المرحلتين الأولى والثانية بترحيل ومغادرة آخر فوج من اشكيت لخشم القربة يوم 23 اغسطس 1964م وتبعهم من تبقى من المهجرين من دبيرة والمدينة وقرى فرقي ودغيم والمجراب. وفي 20 سبتمبر 1964م غادر آخر فوج وبذلك اكتملت المرحلتين الأولى والثانية حيث تم ترحيل 41.000 شخص.
وقبل تنفيذ المرحلة الثالثة لترحيل سكان عموديات صرص والدويشات وعكاشة وكوشة، قامت ثورة 21 اكتوبر 1964م المجيدة. وأطيح بنظام الفريق عبود وتبع ذلك توقف الهجرة لعام كامل ثم استؤنف تنفيذ المرحلة الثالثة بتهجير سكان المناطق المذكورة أعلاه حيث غادر أول فوج منهم لخشم القربة يوم 20 اكتوبر 1965م واكتملت المرحلة الثالثة والأخيرة للتهجير بمغادرة آخر فوج يوم 23 نوفمبر 1965م. وقد تم ترحيل 2.357 شخص في هذه المرحلة.
وقد أشرف السيد حسن دفع الله الذي شغل منصب الحاكم العسكري ومفتش الحكومة المحلية ومعتمد الهجرة ونائب لجنة توطين أهالي حلفا، علي تنفيذ المرحلتين الأولى والثانية من التهجير ونقل بعدها للخرطوم يوم 17 سبتمبر 1964م وقد قام نائبه السيد محمد علي نديم بالإشراف على ترحيل باقي فوجين من المرحلتين الأولى والثانية وتنفيذ المرحلة الثالثة والأخيرة والتي انتهت في نوفمبر عام 1965م.
وفي الجانب المصري من النوبة بدأ تهجير أهالي بلاد النوبة في اكتوبر عام 1963 إلى هضبة كوم أمبو على نحو 50 كيلو مترا شمالي اسوان. وكانت أول قرية تم تهجيرها هي قرية دبود التي غادرت يوم 11 أكتوبر 1963. كما أن آخر قرية تم تهجيرها هي قرية أبو حنضل التي غادرت يوم 21 يونيو 1964 واستغرقت عملية التهجير 147 يوما. ويجدر بالذكر أن أهالي قرية توماس وعافية وبعض الأسر المصرية التي كانت تقيم بوادي حلفا انتقلوا إلى المنطقة التي تقع غرب مدينة إسنا بمحافظة قنا.
هذا وقد غمرت مياه السد نحو 500 كيلو مترا جنوب مدينة اسوان منها 350 كيلو متر داخل الحدود المصرية و150 كيلو متر داخل الحدود السودانية، وبلغ عدد السكان الذين تأثروا بمياه السد وغرقت بيوتهم وأملاكهم وهجروا نحو 53 ألف نسمة بالنوبة السودانية وحوالي 99 ألف بالطرف المصري من النوبة بإجمالي 152 ألفا نسمة.
المتتبع للمستجدات في أرض النوبة يلاحظ الهجمة الشرسة على الأراضي النوبية ولا سيما أراضي الحوض النوبي الممتدة من جبل العوينات في الشمال إلى الدبة جنوبا باسم الاستثمار الأجنبية دون اعتبار للحقوق التاريخية للسكان النوبيين في أراضيهم التي توارثوها أبا عن جد. ويلح علينا السؤال: هل يعود النوبيون المهجرون ونوبيو الشتات إلى بلاد النوبة لبناء النوبة الجديدة على أنقاض مساكنهم ومساكن آبائهم وأجدادهم على ضفاف بحيرة النوبة أم كتبت عليهم الهجرة إلى المنافي والشتات تاركين أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم بكل ماضيها العريق وحاضرها ومستقبلها المشرق لغيرهم ولسان حالهم يردد قول أمير الشعراء شوقي:
أحرام على بلابله الدوح *** حلال على الطير من كل جنس
مقتطفات من كتاب (وادي حلفا … التاريخ والتراث والإنسان) تحت الطبع.
محمد مصطفى فرح
(أبو مصطفى)