عبد الوهاب الأفندي يكتب : عن حكم التكنوقراط وحكم العسكر وأساطير أخرى

الزرقاء ميديا

أودّ على غير العادة أن أبدأ هذه المداخلة بأحكام قاطعة، وبالأصح حكمين قاطعين، أولهما أنه لا يوجد شيءٌ اسمه حكم تكنوقراطي، لأن الحكم مهمة سياسية في جوهرها؛ وثانيهما أنه لا يوجد شيء اسمه حكم العسكر، لأن الجيش ليس حزباً أو نقابة، بل هو هيئة تراتبية، كل من فيها يسمع ويطيع لمن هو فوقه. هناك حكم بالعسكر، أي باستخدام المؤسّسة العسكرية أداة لفرض إرادة جهة من داخل الجيش أو خارجه.
مفهوم الحكم كمهارة تقنية يتولاها “العلماء” أو “الخبراء” له تاريخ قديم، منذ طرح أفلاطون فكرة الفيلسوف (العالم بـ”حقائق” الأمور وجوهرها) حاكماً مثالياً، وتبعه الفارابي وآخرون. تم التنويع على الفكرة من زوايا أخرى، مثل نظرية “ولاية الفقيه”. وقامت الفكرة على خطأ أساسي في كل هذه الحالات، حيث إنها لم تر دور العالم في مشاركة علمه مع بقية الخلق، لأنه عندهم غير قابل للمشاركة، بل قد يكون من الواجب إخفاؤه وتضليل الرعية بشأنه حتى تنقاد، فحكم الفيلسوف/ الفقيه عندهم هو في الحقيقة حكم المخادعة.

جاءت الماركسية أيضاً بمفهوم “الاشتراكية العلمية”، الذي يفترض وجود “علم” تكون الاشتراكية تطبيقاً له. ولا نحتاج هنا للاستفاضة في إشكالات هذه المقولة، بعد ما وقع من تجارب جعل جل دعاتها يتخلون عنها. ولكن، من منظورنا الحالي، يخالف التسييس المفرط لمفهوم العلم الذي ميز الماركسية مفهوم الخبير المعاصر القائم على قاعدة أن الأساس العلمي موثوق به ومتاح للجميع. غالبية الناس مثلاً يثقون بالمنظومة الطبية المعاصرة، إلا قلة مماحكة كما نشاهد هذه الأيام بشأن وباء كورونا. ولكن الملاحظ أن من يُصابون به يهرعون إلى المستشفيات طالبين عناية الأطباء، ولا يقصدون المظاهرات المعادية للتلقيح والحجْر الصحي. من هذا المنطلق، للمنظومة الطبية سلطة معترف بها، وتكاد تكون غير منازعة في مجالها. ولكن هذه السلطة محدودة، حتى في هذا المجال، بالسلطة السياسية والخيارات السياسية، ففتوى المجالس الطبية في صلاحية الأدوية، وضرورة لبس الأقنعة والحجر الصحي والتباعد، .. إلخ. ولكن السلطة السياسية هي المخوّلة بتنفيذ هذه الإجراءات، آخذة في الحسبان الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي حال فشلت الإجراءات، تحمّل المسؤولية للسياسيين، وليس للخبراء.
ويرتكز تقاسم الأدوار هذا إلى طبيعة التخصّصات التقنية المعاصرة التي تتطلب التركيز على اختصاصات معرفية/ مهنية تزداد ضيقاً باستمرار. وينعكس هذا على نوع التدريب، وكذلك الممارسة والتجربة، ومتطلبات التجويد الدافعة باتجاه التعمق أكثر في التخصّص على حساب الاهتمامات الأخرى. وينطبق هذا حتى في التخصّصات الاجتماعية، مثل القانون والاقتصاد ونحوهما. ولا يعني هذا أن المتخصص في جراحة الأعصاب أو العيون لا يصلح لأن يكون مدير مستشفى أو حتى وزير صحة، ولكن هذا قد يحدُث بالرغم من تخصصه، وليس بسببه. وتعزو إحدى الدوريات الصحية البريطانية ما تشهده الإدارات الصحية هناك من استقطاب بين الإدارة والمهن الطبية، ومعه عزوف الأطباء عن الأدوار الإدارية، إلى عدم الرغبة في خسارة أمان الوظيفة الطبية والدخل المرتفع للأخصائيين، مقابل المخاطر التي يتعرّض لها الإداريون، وتحميلهم مسؤولية الأخطاء، بل حتى التعرّض للمساءلة من المجالس الطبية نفسها.

وبالطبع، لا تكفي المهارات الإدارية لأن تكوّن سياسياً ناجحاً، لأن السياسة تتطلب قدرات ومهارات فوق مجرّد “المهنية”، تشمل مهاراتٍ في مجال معالجة النزاعات واستباقها، والتوفيق بين الآراء المتعارضة، وأهم من ذلك توخّي العدالة في توزيع الأعباء والخدمات بين الأفراد والجماعات والمناطق.
ولتوضيح أهمية الفرق بين المهارات التقنية والمهارات السياسية، نذكّر بأن محاولة لتطبيق معايير تقنية في عملية “سودنة الوظائف” في السودان في مطلع الخمسينيات تمهيداً للاستقلال كانت عامل إشعال الحرب الأهلية في الجنوب. حيث أدّى استخدام المعايير الأكاديمية – المهنية وحدها إلى تأهل ستة إداريين من جنوب السودان فقط لوظائف عليا، وفي الإدارة المحلية. وقد فجّر تولي مواطنين من الشمال كل الوظائف الإدارية العليا في الجنوب غضباً مفهوماً لدى النخبة الجنوبية، ووصفا للوضع الناشئ بأنه “استعمار جديد”. ولا شك أن تلك القرارات مثلت قمة السذاجة السياسية.
العسكريون بدورهم يمكن تصنيفهم جزءاً من القطاع المهني الحديث، حيث هم مهنيون مختصون بتوفير المتطلبات الأمنية للبلاد وأهلها ضد المهدّدات الماثلة والمتوقعة. ويتلقون عليه تدريباً متخصصاً في فنون تحديد المخاطر وسبل التصدّي لها، وكذلك في الانضباط واتباع الأوامر. ويشمل ذلك، بحسب طبيعة النظام، الوعي السياسي وقواعد السلوك تجاه النظام والمحكومين، ففي النظم الديمقراطية، يلقن الجنود ضرورة الانصياع للقانون وللسلطة المنتخبة، وعدم التدخل غير المرخص في الشأن المدني. بينما في الأنظمة الأخرى يلقنون طاعة أولي الأمر.

لهذا كله، أكّد كاتب هذه السطور في أكثر من بحث منشور (وفي كتاب يصدر قريباً بإذن الله) على مقولة إن الجيوش لا تحكم أبداً، وإنما يُحكم باسمها أو هي تستخدم في الحكم. هناك استثناءات بسيطة تثبت القاعدة، مثل الحالات التي يتولّى فيها الجيش كمؤسسة الحكم، كما حدث في السودان عند انقلاب قائد الجيش الفريق إبراهيم عبود عام 1958. ويمكن أيضاً الإشارة إلى الحالات المماثلة في باكستان، فهنا يحافظ الجيش على كيانه. ولكن حتى هنا يبقى الجيش هيئة تراتبية، يتلقّى المنتسبون إليها الأوامر وينفذونها، ولا يشكّلون حزباً سياسياً يتولّى شؤون الحكم.
أما إذا كان الانقلاب من تخطيط قيادات وسطى في الجيش وتنفيذها، وغالباً بدعم قطاعاتٍ مدنية أو حزبية، فإن الكارثة تقع على الجيش أولاً، الذي يبقى، في نظر الحاكمين، الخطر الأكبر على سلطانهم، وتتعرّض قياداته العليا للتصفية والتنكيل. وهذا يتطلب الاستعانة بأدوات وآليات من داخل الجيش وخارجه (المخابرات بأنواعها) لإحكام الرقابة على الجيش وضمان ولائه، وتحقيق “التطهير” المستمر لصفوفه. ولو أخذنا معظم الأمثلة العربية، مثل سورية والعراق في عصورهما البعثية، فنجد أن قيادات النظام الأمني (مثل صدّام حسين وبشار الأسد) كانت في الأصل مدنية، وأن الحكم فيها هو لأفرادٍ أو عائلات عبر أجهزة مخابرات (متعدّدة ومتنافسة). وقد أصبحت الأحزاب التي جاؤوا منها أول ضحاياهم. وقد حدث الشيء نفسه في عهد حكم نظام الإنقاذ، حتى بعد أن تمرّد الجيش على قيادة الشيخ حسن الترابي في نهاية العشرية الأولى من الحكم، حيث استمر الحكم في يد التنظيم، قبل أن يتحوّل إلى حكم الفرد بيد عمر البشير، الذي استنفر مليشياتٍ، مثل الدعم السريع تحديداً، لأنه كان يخشى الجيش.
وحتى في مصر التي يكاد الباحثون يجمعون على أنها ظلت تحت حكم الجيش منذ ثورة يوليو/ تموز 1952، نجد أن الرؤساء، بمن فيهم جمال عبد الناصر، ثم أنور السادات فحسني مبارك، أصبحوا مدنيين عندما تولوا السلطة، وكانت الأجهزة الأمنية هي أداتهم في الحكم، وليس الجيش، ولا تزال. وقد كشفت دراسات حديثة أن عبد الناصر نفسه كان يواجه صعوباتٍ في السيطرة على قيادة الجيش، على الرغم مما بذل للعسكريين من حوافز، وتمتعوا به من نفوذ في معظم هياكل الدولة.

وتحتاج كل الأنظمة غير الديمقراطية إلى قوة مسلحة تفرض عبرها سلطانها، لأن الأنظمة المستبدّة هي بالتعريف لا تجد القبول من مواطنيها، وهي تعلم ذلك. ولهذا تدرك حاجتها للقوة القمعية لفرض إرادتها على الشعوب كرهاً. وقد كان هذا حال الأنظمة “الحزبية”، مثل الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية، وحزبي البعث في العراق وسورية كما أسلفنا، فقد كانت تحكم عبر الأجهزة الأمنية (وليس الجيش).
مع تطوّر تقنيات الإكراه في العصر الحديث، وتمرّس عديد من الأنظمة فيها من طول الاستخدام، أصبحت للقمع أيضاً تقنياته التي لا تشمل فقط أساليب القهر والتعذيب والابتزاز، بل أيضاً المهارات الدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية، وحتى القانونية، فلا بقاء لأنظمة إكراه بدون دعم خارجي وموارد اقتصادية وسرديات شرعية (غالباً ما تكون سرديات تخويف مما هو أسوأ). وقد كشفت الثورات العربية أن خطوط الدفاع الأولى عن أنظمة التسلط كانت أجهزة الإعلام بالتوازي مع الشرطة والأمن، بينما كان الجيش خط الدفاع الأخير. وفي معظم الحالات، لم يسارع الجيش لنجدة الأنظمة، وحتى حين فعل، فإنه إما أزاح الحاكم أو انقسم أو تفتت.
الخلاصة، إذن، أن الحكم والقيادة السياسية مهمة سياسية أولاً وأخيراً، وليست مهارة تقنية تقوم بها الحواسيب، ويمارسها “الخبراء”. والسياسة، كما تشير أصول الكلمة العربية، هي التعامل التواصلي مع الكائن لضمان استجابته للسائس. ونفضل تعريف السياسة الذي صاغته حنا أرندت وسايرها فيه يورغن هابرماس وآخرون، ويرى في السياسة فعلاً تواصلياً يجسّد إدارة الاجتماع الخالي من الإكراه، أو يعتمد الحد الأدنى منه. صحيحٌ أن الساحة السياسية تحتاج القوة لحمايتها، ولكن هذه القوة تخضع للقيم المشتركة التي يقوم عليها هذا الاجتماع. وفي هذا الرأي، يمثل استخدام العنف والقهر نهاية السياسة، وليس جوهرها كما يدّعي بعض المفكرين.

في ما يتعلق بالحالة السودانية الراهنة، ظل الوضع منذ إسقاط نظام البشير حكماً بالعسكر، على الرغم من واجهته المدنية. وقد حذر الكاتب من مغبّة هذا الخيار في وقت مبكر، وعزاه إلى التوجّه الإقصائي السائد حينها، وتقبله مشاركة العسكر خوفاً من خصوم مدنيين، وللمليشيات خوفاً من الجيش الرسمي، فحكومة عبد الله حمدوك لم تكن ترسل أعضاء تجمع المهنيين لتنفيذ الاعتقالات، ولم تكن تحتجز المعتقلين في نادي الأطباء أو دار نقابة المحامين، كما أنها لم تكن تفضّ المظاهرات عبر الحوار أو جلسات الإقناع. بل إنها أبدت عزوفاً حتى عن استخدام القضاء (مع أن القضاء أيضاً يحتاج للشرطة حتى يؤدّي عمله). ونذكر هنا بأننا حذّرنا مراراً من خطر الاستقطاب الذي لا تقوم معه ديمقراطية، وكذلك من خطر تحوّل ما تسمّى لجان المقاومة إلى ما يشبه المليشيات، ما قد يجعلها خطراً على العملية السياسية، بمن في ذلك القيادات المدنية المعارضة للحكم العسكري، كما ظهر في الاحتجاجات أخيرا.
ما يحتاجه الانتقال الديمقراطي في السودان ليس حكومة تكنوقراط كما يقال، بل حكومة من السياسيين المحنّكين المشهود لهم بالاستقامة والبعد عن التحيزات الحزبية أو القبلية، لأن الحاجة اليوم هي إلى أهل الكفاءة السياسية أكثر مما في الظروف العادية، نظراً إلى الاستقطاب المتزايد وسيادة التطرّف وضيق الأفق، والخرق السياسي المرتبط بهما، وهو ما لا يسمح بتأمين الحكم المدني، فالتطرّف يحتاج إلى العنف، وهو بدوره يحتاج إلى العسكر، أو المليشيات (وهي تتألف من مدنيين تمت عسكرتهم، انضباط مع الافتقاد لانضباط الجيش وفعاليته). والحل الذي نراه لإبعاد العسكر عن السلطة هو وحدة القوى المدنية الملتزمة بالديمقراطية بدون إقصاء حزبي أو أيديولوجي، واختيارهم لوزارة تمتلك قدراتٍ سياسيةً مجرّبة، وقبولا شعبيا واسعا، تتولى إدارة المرحلة الانتقالية بدعم القوى السياسية ومشاركتها، مع استعادة مؤسسات الدولة المحورية، بما في ذلك القضاء والجيش، دورها المحايد بين الكتل السياسية. كذلك لا بد من الإسراع بإنشاء مفوضية انتخابية مستقلة، وتعزيز حرية الإعلام وحماية الحريات عموماً من أي تعسّف، فالقيم والالتزامات الديمقراطية لا بد أن تجسّد في المؤسسات الانتقالية لضمان الانتقال نحو الديمقراطية، وليس الانتقال نحو ما هو أسوأ. ولا يعني هذا أن الطبيعة السياسية للحكم لا تتطلب الكفاءات الفنية، فالناس يحتاجون أيضاً ضرورات المعيشة من أكل وعناية صحية ونظافة بيئية وطرق، .. إلخ، وهو ما أهملته وفشلت فيه الإدارة الانتقالية الحالية التي افتقدت الكفاءة التقنية والحنكة السياسية معاً. وقبل ذلك كله، سيادة العقل والعقلانية، والبعد عن اتباع الأهواء وسيادة الأحقاد، ما يؤدي بالضرورة إلى التهلكة.

Comments (0)
Add Comment