دخلت الفترة الانتقالية السودانية نفقاً مظلماً وتعقيداً لم تشهده البلاد من قبل، فتعددت المبادرات داخلياً وخارجياً لحلها. من بينها مبادرة الاتحاد الإفريقي، والمبادرة الأمريكية، وبعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان والمعروفة باسم “يونيتامس”.
ولكن هناك سؤال يطرح نفسه بقوة عقب الزيارة المفاجئة والخاطفة التي أجراها وفد إسرائيلي إلى السودان في التاسع عشر من يناير/كانون الثاني الجاري، أي قبل ساعات من زيارة وفد أمريكي إلى الخرطوم برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية السفيرة مولي في وعضوية المبعوث الأمريكي الجديد للقرن الإفريقي السفير ديفيد سترفيلد حول الاجندة الإسرائيلية-الأمريكية المشتركة في السودان والتي يبدو أنها تسعى إلى إضعاف دور الأمم المتحدة وتغييب مبادرتها؟
فقد أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان مباشرة عقب لقائه الوفدين الإسرائيلي والأمريكي ” كلاً على حدة”، مرسوماً بإعفاء جميع وكلاء الوزارات الذين عينهم رئيس الوزراء المستقيل الدكتور عبد الله حمدوك واستبدالهم بـوكلاء جدد، وتكليفهم مهام الوزراء حتى قيام الانتخابات في موعدها المحدد بنهاية الفترة الانتقالية منتصف العام 2023 .
هذه الخطوة تشير إلى أن الفريق البرهان غير آبه بمبادرة رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بريتس التي أطلقها في العاشر من يناير/كانون الثاني لجمع شمل السودانيين 2022 في إطار ما أسماه تفويض البعثة ومساعيها الحميدة لدعم الانتقال السياسي بعد فشل جميع المبادرات السودانية. والسودانيون الذين يقصدهم فولكر أطلق عليهم مصطلح “أصحاب المصلحة”.
الاستقواء بالأجنبي
ما يعاب على شريكي الحكم في السودان “العسكري والمدني” استنجادهما بالأجنبي في حل صراعاتهما الداخلية ما يعد في نظر الكثيرين انتهاكاً للسيادة الوطنية. ففي مقابل طلب رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك خلسة من الأمين العام للأمم المتحدة في يناير/كانون الثاني 2020 إرسال بعثة من الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان – الأمر الذي تحقق فيما بعد ـ قام الجانب العسكري بتمديد جسور العلاقة مع إسرائيل، فكانت زيارة البرهان المفاجئة إلى مدينة عنتبي اليوغندية في فبراير/شباط 2020 ولقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنايمين نتنياهو، وما تلاها من خطوات نحو التطبيع، وهي الخطوة التي أثارت غضب بعض قطاعات واسعة من الشعب السوداني.
لقد وجدت إسرائيل ضالتها المنشودة إذن في المجلس العسكري، الذي حّول السودان إلى حليف بعد عداوة امتدت لعقود من الزمان. فألغت الحكومة الانتقالية قانون مقاطعة إسرائيل لسنة 1958 بعد أن ظلت حكومات السودان المتعاقبة منذ الاستقلال في عام 1956 داعماً قوياً للقضية الفلسطينية، وكان السودان معبراً رئيسياً للسلاح إلى المقاومة الفلسطينية، ودفع ثمناً غالياً جراء ذلك والآن هاهما تل أبيب وواشنطن تسجلان حضوراً متزامناً في الخرطوم في الوقت نفسه.
ظل المكون العسكري يحقق نصراً تلو آخر في صراعه المحتدم مع شريكه المدني المتمثل في “قوى إعلان الحرية والتغيير”، والتي كانت الحاضنة السياسية للحكومات الماضية بعد أن أقصت باقي القوى والمكونات السياسية الأخرى.
مبادرة واشنطن
أعلن الجانبان السوداني والأمريكي في العشرين من يناير/كانون الثاني 2022 عن اتفاق من أربعة نقاط، ينص على دخول الأطراف السودانية في حوار وطني شامل عبر مائدة مستديرة، تضم جميع القوى السياسية والمجتمعية باستثناء حزب “المؤتمر الوطني” ، للتوصل إلى توافق وطني للخروج من الأزمة الحالية وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة يقودها رئيس وزراء مدني لاستكمال مهام الفترة الانتقالية، وإجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية لتواكب التطورات الجديدة وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية.
والملاحظة الأبرز هنا أن الجانبين السوداني والأمريكي لم يشيرا إلى مبادرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة فولكر بيريتس، ولا إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة السودانية التي ظل يطالب بها فولكر منذ مجيئه إلى السودان، كما غابت عنها الإشارة إلى أعمال العنف التي صاحبت الاحتجاجات المناهضة للحكم العسكري والإجراءات التي اتخذها البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2021 والتي قضت بحل مجلسي السيادة والوزراء وتجميد العمل ببعض بنود “الوثيقة الانتقالية الدستورية” الحاكمة في البلاد.
التجميد الذي حدث لبعض بنود “الوثيقة الانتقالية الدستورية”، أوجد صيغة دستورية لخروج قوى إعلان “الحرية والتغيير” والتي كانت “الوثيقة الدستورية” تعتبرها الممثل الوحيد لقوى الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير، مما يتيح المجال لدخول قوى أخرى ظلت على الهامش على مدى الثلاثة أعوام الماضية، يضاف إلى ذلك اعتراف واشنطن وتل أبيب ضمناً بمكانه وإسهامات قوات “الدعم السريع” في التغيير، وقائدها العام محمد حمدان دقلو حميدتي ونائبه عبد الرحيم دقلو، والذي قالت وسائل الإعلام الإسرائيلية إنه كان في استقبال الوفد الإسرائيلي بمطار الخرطوم.
تغييب الإسلاميين
هناك ما يشبه الإجماع على تغييب التيار الإسلامي عن رسم مستقبل السودان، فالقاسم المشترك بين المبادرتين الأمريكية ومبادرة الأمم المتحدة هو استثناء حزب “المؤتمر الوطني” من المشاركة في الحوار الوطني الشامل الذي يضم القوى السياسية كافة، وقد أثارت هذه الخطوة موجة من الغضب وسط التيار الإسلامي المساند للمؤتمر الوطني، والذي عبر عن ذلك بسلسلة من الوقفات الاحتجاجية أمام مقر بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم، طالبت هذه الوقفات بطرد رئيس البعثة فولكر بريتس لتدخلاته السافرة في الشأن السوداني. يضاف إلى ذلك الوقفات الاحتجاجية المتكررة أمام مقر النيابة العامة بالخرطوم لأسر وأصدقاء العشرات من المعتقلين السياسيين منذ ما يقارب ثلاثة أعوام، ولم تشرع السلطات المختصة في إصدار التهم بحقهم وتقديمهم إلى المحاكمات إلا الأسبوع الماضي بعد تنامي الضغط الشعبي.
خلاصة القول، إن المبادرات الأجنبية المطروحة على الساحة السودانية ستصطدم أيضاً بمعارضة واسعة من قطاعات كبيرة من الشعب السوداني، ومن بوادر ذلك ما أعلنه الأسبوع الماضي كيان يضم 70 حزباً أطلق على نفسه اسم “سودانيون ضد التدخل الأجنبي” الذي أعلن رفضه القاطع لتدخلات مبعوث الأمم المتحدة فولكر بريتس في الشأن سوداني، وكذلك “القوى الشعبية لمقاومة التطبيع في السودان” (قاوم) والتي أكدت في بيان لها الأسبوع الماضي أن ما أقدمت عليه حكومة الفترة الانتقالية بشقيها العسكري والمدني من بسط العلاقة مع إسرائيل لم ولن يجني منه السودان أي فائدة بقدر ما جنته تل أبيب من فوائد لا تحصي ولاتعد، مشددة على أن تلك الخطوات كانت دون تفويض شعبي ولا سند قانوني، مما يعني احتدام الصراع والتنافس. إلا أنه مازال متاحاً أمام السودانيين قراءة الماضي والاعتبار من تجربتي الانتقال السابقة ( أكتوبر1964 وأبريل 1985) حتى يتجنبوا تكرار الأخطاء والتوجه نحو الاتفاق على “مشروع وطني شامل”.