الدكتور فضل الله أحمد عبد الله يكتب:ضدا للتجافي أو النسيان..مقال في حق بروق الجمال.. الفاتح حمزة والمعز عبادي وٱخرون ..

ما رأيت بخيلاً يمنح حباً ،
فالحب دائماً ينبت من أكف الكرماء .
” شمس الدين التبريزي ”

وهكذا عرف أهل المنطق التوحيدي موقع وجودهم فلزموا المشي في صراط الجمال .. ونداءات الوجد القديم هي هي حبا للفضيلة ، ولأهله الذين مشوا ويمشون إليه ، أتقياء ، أنقياء …

” فلست مبد للعدو تخشعا ولا جزعا إني إلى الله مرجعي ” ..

مقاومة للنسيان ، أو التجافي ، ننبش بعض ما استودعناه من فعال وخلق – بضم الخاء – في رحلة العمر ، ومن وقع الأيام وحادثاتها ، ووقتئذ في منطقة العمليات الحربية الاستوائية ـــ الجنوب السوداني وقتذاك ـــ في 1992 ـــ 1994 ..

أيام تلك الرايات في مجموعة “السائحون” ، والرفاق اقتسمنا الخنادق والبنادق والجراحات ، ورددنا معا الأناشيد السماويات .

ونحن ، نرنو إلى ذلك الأمل الذي كنا نرجوه ، وعليه كانت العهود ، وأسال أنبل شباب السودان الأنفس والدماء في سبيله ، بذلا وعطاء مبرور .

والمقال ، هو فقط للذكرى ، والتمييز بين إشارتين لا ثالث لهما :
” فاسمع بقلبك ما يأتيك عن ثقة
وانظر بفهمك ، فالتمييز موهوب ”

وفي الذكرى عندي من الشهداء ” المعز عبادي ” و” أنس الدولب ” و” حمدي مصطفى ” و” مصطفى ميرغني المزمل ” رياحين مجموعتنا تلك ، الذين ذهبوا هكذا ركضا الي الله ، تاركين فينا ” الذكر والذكري ” .

ويقف فى مركز الفعل الرشيد هذا ، الشهيد ” الفاتح حمزة ” صاحب تلك الرسائل الداوية إلى ” مصطفى ميرغني وآخرين ” ..

قائلا :
” ذهبت باكراً ، تقارب الفائزين مدججاً بالسلاح والدم والجرح ، تعلم أنك قد وصلتهم حالاً، فنعمت وغرقت في الفرح والنعيم ، وصلت مملوءاً مسكاً ونوراً وطيباً ، جلست وآخرون ، بربك هل ذكرت بؤسنا والفقر والسذاجة والانحطاط ، هل ذكرت تماثيل الطين والخوالف والقاعدين ؟
عشرونك هذه أخي ، يقضونها حرباً على المظلومين وعبادة لأرباب الخزائن والأموال ” .

ثم يقول :

” عشرات الخائبين أدعياء الحرية وحب الإنسانية والأوطان يناجون بالإثم والعدوان والغزو ويجرجرون الخيبة في كل منتدى ويبيعون الفضيلة بكل دولار ودرهم …

أيها المصطفى :
حدثهم أن الرسول حاضر وجبريل والقعقاع .. وأن البحر ذات البحر ، شق الأرض شاهداً وأن الجبل ذاته يمتد في التأريخ ينبئ أن الأيام دول وأن الكتاب هو ، هو ، وأهل البقرة وآل عمران .. يا من جئتم من كل صوب وتناديتم من كل شِعب كأنكم على لقاء ” .

والشهيد الفاتح حمزة ، صاحب تلك الكلمات ، وغيرها من الرسائل الشهيرة عند أهل الخاصة ، هو من مواليد أم روابة شمال كردفان ، كان طالباً – أوانذاك – ورئيس اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية 1993-1994 ،

كان فتي غزير المعرفة ، عميق الفكر ، فذ الموهبة ، قال قولته تلك عقب سماع نبأ استشهاد رفيقه ” مصطفى ميرغني المزمل ” ومن أشهر أقواله أيضاً في ذات رسالته :

” أتيت ربك بالنصر والجرح والشهادة ، وجئنا بالحطام والجبن والقمامة ..

تركتنا كتماثيل الكرتون نندب الحظوظ في طول الحياة ، تسيمنا نفسها ، وترينا كل يوم من أمرنا ذلاً ونحن كأجساد العبيد لا نزداد منها إلا قرباً وإخلاصاً وتودداً ” .

وعجيب أمر ” الفاتح حمزة ” قال قولته تلك ولم يمكث إلا قليلاً من الأيام ، وذهب إلى ربه مدججاً بالسلاح والدم والجرح ..

بربكم ، ماذا تبقي من ذلك المثال ؟ وماذا تبقي اليوم من تلك الفكرة التي جسدها الفاتح حمزة الي صورة مرئية لحظتها ، وأحالتها اليوم سياسة التحالفات القبائلية ، والفكر العرقي ، ومراكز القوي ، الي وطن مسكون بالتشظي .

ورحم الله الشهيد “المعز عبادي” ذلك الفتى الذي كان يمشي بيننا مثل قامة الشفق وضوحاً في الفكرة ، ونصاعة في المبدأ ، فما كان يعرف من لجاج القول شيئاً قط ، ونحن نسير أوانذاك “سائحون” ما بين جبال ، وتخوم الاستوائية ، نتوكأ على إيمان عميق بأن يظل السودان ، واحداً موحداً مهما تناوشته البلايا والرزايا .

كان ذلك عهد وسمته الدماء ، أسما ، فأسما …
و ” المعز عبادي ” في معجم الإخاء ، أمثولتنا ، ومفخرتنا وبوصلة مشاعرنا عندما يستوحش درب العبور ، فيسمعنا عزف لحن فكرة الحياة : ” ما حيلة العبد ، والأقدار جارية عليه في كل حال ” ..

وبهذا القول نمشي دون أن نبالي وكأننا نُسمع الدنيا إيقاع أقدامنا :

” أخي هل أراك سأمت الكفاح
وألقيت عن كاهليك السلاح ..
فمن للضحايا يواسي الجراح
ويرفع راياتها من جديد ”

والمعز عبادي ، صديق ورفيق ، يجمع بيننا أمرين – دون سائر الناس – الأول هو : “موجودات التصوف” في رقائق أحوالهم واشراقاتهم . والثاني هو : محبة الأدب والشعر ، سيما ، شغفنا الخاص بأشعار “مصطفى سند” ..

وهذا لعمري كان من أعجب ما في أمرنا ٱنذاك .. ننهض سرَّاة ، وأكثر من يأسر أنفسنا قول الصوفي صاحب الخرقة ” سهيل التُستري ” فيما روى عنه قوله :

” كنت أسير في البرية إذ رأيت غلاماً أسود وبين يديه أغنام وعلى وجه من المعرفة أعلام ، فقال لي : أنت حضري ؟

فقلت نعم . فقال : بم عرفت مولاك؟
فقلت بالشواهد . فقال هيهات ! من عرفه بالشواهد غرق في بحر الشدائد وفاته من الله كريم الفوائد .
ثم أنشد وجعل يقول :

إني لأعرف مولائي بمولائي

ولستُ آمله إلا لبلوائي

هو الجواد فلم يدركه من أحد

برؤيته بدليل العقل والرائي

و نقف بقدر من المواجع ، أوحينا نلبس ثوب المعاني النابعة من معين قول أبي نواس :
صَليتُ من حبِّها نارين :

واحدة جوف الفؤادِ
وأخرى بين أحشائي
وقد منعتُ لساني أن يبوح به
فما يعبر عنه غير إيمائي

يا ويح أهلي ، أبلى بين أعينهم
على الفراش ولا يدرون ما دائي

لو كان زهدك في الدنيا كزهدك
في وصلي مشيت بلا شك على الماء

أو عند إشارات سيد العاشقين وقوله :

يا قلبُ أنتَ وعدَتني في حُبّهمْ
صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ
صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا
قُل لِلّذِينَ تقدَّموا قَبلي ومَن
بَعدي ومَن أضحى لأشجاني يَرَى
عني خذوا وبي اقْتدوا وليَ اسمعوا
وتحدّثوا بصَبابتي بَينَ الوَرى
ولقد خَلَوْتُ مع الحَبيب وبَيْنَنَا
سِرٌّ أرَقّ منَ النسيمِ إذا سرى
وأباحَ طَرْفِي نَظْرْةً أمّلْتُها
فَغَدَوْتُ معروفاً وكُنْتُ مُنَكَّرا
فَدُهِشْتُ بينَ جمالِهِ وجَلالِهِ
وغدا لسانُ الحال عنّي مُخْبِرا
فأَدِرْ لِحَاظَكَ في محاسنِ وجْهه
تَلْقَى جميعَ الحُسْنِ فيه مُصَوَّرا
لو أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورةً
ورآهُ كان مُهَلِّلاً ومُكَبِّرا

وفي ضوء ذلك الشعور الصوفي ، تتوهج وتشرق أرواحنا ، في منابع فكرية ترنو دائماً إلى الأمام ، نحو التماسك ، والمصالحة ، والاستقامة على المنطق والمعنى .

وكانت الليالي عندنا قصائد خضراء مفعمة بالأمل وسلام الأنفس ، سلام على الأفئدة والقلوب ، سلام على البلاد ، وشوق لدولة نتقرب بها إلي الله ..

” المعز عبادي ” و” أنس الدولب ” و”حمدي مصطفى” و ” صلاح كبيري ” و” مصطفى ميرغني المزمل ” وآخرين من “عشاق الفراديس” الذين تجملت بهم ساحات الفكر والمعارف ، يمشون بين الناس ، بالرؤية والحجة الناصعة ، يسألون للبلد الأمان .

لم يكن ” المعز عبادي ” ومجايليه من الذين جسدوا معنى ” إنكار الذوات ” هم أصدق من كتب بالدم فكرة الشهادة فحسب ، بل يعدون هم أكثرنا قيمة وتصويراً للمعنى الذي أصبح ” فردوساً مفقوداً ” من بعدهم .

وثاني الأمرين في محاضر ذكرياتي مع ” المعز عبادي” هو ذلك الشغف والوله بـ” مصطفى سند ” .. قصائده لازمة من لازمات الخصوصية في لوح أيامنا تلك ونحن نضع بين يدينا دائماً ونفر من الخلصاء :
البحر القديم ، ملامح من الوجه القديم ، نقوش على ذاكرة وأوراق من زمن المحنة .. فنتدارس القصائد ، ونقطر الكلمات في حلوقنا “حتى يسبق الليل النهار” …

يا صولجان..
يا صولجان قهرتنا وكسرت عزّتنا فأنت
الأفعوان ..

فلك الحياةُ بقضها وقضيضها ..
ولك التكبُّرُ
والتجبُّرُ والحضارة وانفعالات الزمان ..
ولنا اليدان ،
لنا اليدان ،

نتوسد الطوب العزيز ونستقر ،
فلا بنود ولا ملوك ،
ولا ضجيج ولا عجيج ،
ولا قصور
ولا حصون ،
ولا وجاهة ،
لا مقام ، ولا مكان لصولجان .

ونعيد القراءة في تأمل قوله : ” نتوسد الطوب العزيز ونتوسد .. فلا بنوك ولا ملوك ”

وكأن شعاب جبال الرجاف ولادو ، تردد معنا :
يا صولجان ..
قهرتنا وكسرت عزّتنا فأنت الأفعوان ،

وكنا في غمرة الحلم ، ممعنين في الدعاء .. اللهم نسألك للبلد الأمان ..

ويا لوجعي ، رباه ، إن فؤادي يعاقر آلام هذي البلاد .

هل ترى ذاكرتنا تحفظ تلك الأسماء والعاني ..

Comments (0)
Add Comment