خالد التجاني النور يكتب..الزيارة المسكوفية..من يدفع ثمن المقامرة؟

الزيارة المسكوفية… من يدفع ثمن المقامرة؟

 

(1)
ربما لم تكن زيارة الوفد الرسمي الحالية إلى روسيا بقيادة محمد حمدان دقلو ورفقة وزراء المالية، الطاقة، التعدين، والزراعة، لتلفت الاهتمام على خلفية ما سبقها من زيارات سابقة مماثلة عديدة، لولا دلالة توقيتها في ظل تبعات التطورات الدولية الساخنة الراهنة في الصراع الوجودي الروسي الغربي على أوكرانيا بكل تعقيداته على لعبة إعادة تشكيل التوازنات الجيواستراتيجية على المسرح العالمي وعواقب ذلك وتداعياته التي ستلقي بظلالها على الجميع، والتوقيت نفسه لا يخلو أيضاً من دلالة في حسابات السلطة العسكرية الراهنة المواجهة بأسئلة وجودية هي الأخرى على الساحة المحلية، وقد فارقت حسابات الحقل حسابات البيدر إثر الاستيلاء العسكري على السلطة في 25 أكتوبر الماضي وأدى إلى خلط أوراق لعبة الانتقال السوداني مما أدخل البلاد في أفق مسدود.
(2)
ولعل السؤال الأكثر أهمية في هذا السياق، ما هي الأجندة والحسابات التي ساقت الوفد الرسمي إلى موسكو في ظل هذه الأجواء الملبدة بغيوم عدم اليقين إزاء تبعاتها، وهل دُرست دلالة هذا التحرك، على هذا النحو المتسرع، في هذا التوقيت وأدركت عواقبه في أتون معركة كسر العظم دولية المتواترة التطورات حالياً، أم أن القرار لا يعدو أن يكون مدفوعاً من قبيل “رعونة صاحب الحاجة” الملحاح دون نظر في عاقبة الأمر، بفقه هروب من قدر إلى قدر دون تحسب، أو لعل غلبة الأجندة الذاتية الضيقة، كما خبرنا في لقاء عنتبي، هي من تقود علاقات خارجية لا تعود على الصالح العام بنفع، إن لم تسهم في المزيد من إضاعة المصالح الوطنية.
(3)
بغض النظر إن كانت الدعوة رسمية من طرف موسكو، كما ورد في الخبر الرسمي، أم بطلب من الخرطوم، لحاجة في نفس صاحب الخطوة، فالشاهد عند تتبع مسار العلاقة السودانية الروسية في السنتين الأخيرتين، يظهر على الأقل أن الطرف السوداني، بخلاف روسيا، لا يستند على سياسة خارجية مدروسة معلومة الأهداف والأجندة سواء على الصعيد الاستراتيجي، أو على المدى القصير أو المتوسط، سوى مطالب شديدة الإبهام، وفي حين تنتهج موسكو سياسة معلومة الأجندة ومتماسكة على درجة من الوضوح من سياق مواقفها المعلنة لخدمة مصالحها في المنطقة بما يتجاوز السودان نفسه، بينما يتسّم الموقف السوداني بالكثير من فقدان الرؤية والتخبط والتردد، وهو ما تكشفه تناقض المواقف والتصريحات المعلنة من قبل مسؤولين في خلال الأشهر الستة الماضية.
(4)
من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن الأجندة العسكرية والجيوسياسية تطغى على ما عداها في ميزان العلاقات السودانية الروسية، بما في ذلك مجال الاقتصاد والاستثمار المحدود الأثر على الرغم من الآفاق المتاحة أمامها، فالتبادل التجاري بين البلدين يسجل أرقاما متواضعة قياساً بحجم التجارة الخارجية للسودان، ومحدودة حيث تقتصر على استيراد السودان لمواد غدائية من روسيا يسيطر القمح والدقيق على النسبة الأكبر منها، مع ملاحظة أن السودان ليس لديه سجل صادرات إلى روسيا.
(5)
وحسب تقارير الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية للسودان الصادر عن البنك المركزي في السنوات الثلاث الماضية، فقد بلغت واردات السودان من روسيا في العام 2019 حوالي 809 مليون دولار، منها واردات قمح ودقيق ب 716 دولار، ومواد غدائية أخرى ب 53 مليون دولار، أما في العام 2020 فقد سجلت واردات السودان من روسيا تراجعا إلى 732 مليون دولار، منها قمح ودقيق ب 556 مليون دولار، وموادغدائية أخرى ب 98 مليون دولار.
أما في العام 2021 فقد سجل تقرير الموجز الإحصائي المنشور الذي يغطي حتى الربع الثالث من العام، أي بنهاية سبتمبر 21، تراجعاً كبيراً في حجم الواردات السودانية من روسيا حيث لم تبلغ سوى 158 مليون دولار فقط، بما فيها قمح ودقيق بقيمة 48 مليون دولار.
ويعود ذلك بالطبع إلى تلقى السودان معونة قمح أمريكي خلال عام 2021 بنحو ثلاثمائة ألف طن، كان من المنتظر أن ترتفع إلى 420 ألف طن سنويا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، تم تجميدها على إثر “انقلاب أكتوبر الماضي”.
(6)
وفي حين تتوفر معلومات أكثر وضوحاً في ما يختص بالتجارة الخارجية، فإن حجم ومجالات الاستثمارات الروسية في السودان لا سيما في مجال تعدين الذهب يلفها الكثير من الغموض سواء في حجمها أو في علاقاتها الخفية بالأطراف النظامية، وهو مبحث لتحقيقات استقصائية عميقة.
والجانب الآخر الأكثر غموضاً وإثارة للجدل في ملفات العلاقات الروسية السودانية هو ما يتصل بلا شك بالجوانب العسكرية، ففضلاً عن إحاطتها بالسرية بحكم طبيعتها التي لا تكشف عن تفاصيلها إلا ما تقتضيه العناوين العريضة، إلا أن أبعادها السياسية على صعيد الصراع الداخلي على السلطة في السودان، أو تأثيرها على التوازنات الجيواستراتيجية في محيط السوداني الإقليمي الحيوي هو ما يدفع بها لتكون في دائرة تسليط الضوء عليها بين الفينة الآخرى على وقع التطورات سواء في البحر الأحمر، الممر المائي الأهم، أو صراع النفوذ على منطقة الساحل ووسط أفريقيا.
(7)
ومن المعلوم أن هذه العلاقة العسكرية على طول عهدها، لا سيما في إطار معطى طابع التسليح الروسي للجيش السوداني، إلا أنها أخذت طابعاً سياسياً في أواخر عهد النظام السابق عندما دعا البشير في سوتشي الرئيس بوتين أواخر العام 2017 إلى حماية “السودان” من التهديدات”الأمريكية”، ليبرز بعدها إلى السطح قضية “القاعدة” أو “مركز الخدمات اللوجتسية للسفن الروسية على البحر الأحمر”، وتعدى ذلك إلى استقدام خبراء روس في الشأن الاقتصادي، ثم جاءت على إثرها الحضور الغامض ل”فاغنر”.
(8)
ومهما يكن من أمر فقد ورث خلفاء البشير في الجيش والدعم السريع هذه العلاقات “العسكري- سياسية” المستجدة بأجندة ذات طابع قريب الصلة من قواعد لعبة الصراع على السلطة في السودان، ويبدو أن ثمة معادلة هي التي تدير هذه العلاقة ذات الرأسين مع موسكو، وإن بدا أن كفة قائد الدعم السريع هي الأظهر في هذا السياق.
لكن يلاحظ أن هذه العلاقات الموروثة اتسمت بحالة من الاضطراب في الأشهر الماضية على خلفية مواقف جديدة أظهرت نوعاً من التراجع عن المضي قدماً فيها من جانب قيادة القوات المسلحة، وقد صدرت أول إشارة بهذا الخصوص في منتصف أبريل 2021 حين ” استنكر مجلس الأمن والدفاع السوداني”، في بيان أصدره عقب اجتماع عقده برئاسة الفريق البرهان “ما تناولته الوسائط الإعلامية من أخبار حول البدء في إنشاء قاعدة روسية”، على الرغم من وجود اتفاق سابق بين البلدين لبناء “مركز خدمات لوجستية وإمداد للبحرية الروسية”، وبدا لافتاً لغة البيان التي تستبطن خشونة، ولا سيما وقد أسهم الخلط الإعلامي بين “بناء قاعدة”، وبناء “مركز خدمات لوجستية” في تبرير ذلك.
(9)
بيد أن الموقف الأكثر وضوحاً في التراجع عن ما تم الاتفاق عليه بشأن هذا “المركز اللوجستي الروسي” على البحر الأحمر هو ما جاء على لسان رئيس أركان القوات المسلحة الفريق محمد عثمان الحسين في لقاء تلفزيوني نادر مع قناة النيل الأزرق في آواخر مايو 2021 أعلن فيه للمرة الأولى عن قرار الجيش ب”إعادة النظر في الاتفاقية الموقعة بين روسيا والسودان بشأن إنشاء مركز روسي للإمداد والدعم المادي على البحر الأحمر”، مضيفاً “هناك إعادة نظر في الاتفاقية لتحقيق مصالح السودان”، مشيرا إلى أن الاتفاقية لم تطرح على المجلس التشريعي لإقرارها النهائي، “لا في العهد الذي وقعت فيه ولا حتى الآن لأنه لا يوجد هناك مجلس تشريعي”، وقال “نعتبر أنه ما لم يعتمدها المجلس التشريعي، فستكون لدينا حرية المناورة”، ولم يستبعد “تعديل الاتفاقية”، مشددا على “ضرورة أن تحقق الاتفاقية للسودان مكاسبه ولا تضر بأمن البلد”.
(10)
لم يكن نفي وزيرة الخارجية السابقة مريم المهدي في مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” الروسية في منتصف يوليو الماضي وجود ضغوط أمريكية تقف وراء إعلان الجيش تعليق اتفاقية “مركز الإمداد الروسي” سوى تأكيد للعكس، خاصة مع اختلاف الرواية حول سبب ذلك، فرئيس الأركان ربط الأمر بإجازتها من قبل مجلس تشريعي لا وجود له في واقع الأمر، وغياب البرلمان أصبح أداة للتحايل السياسي في العهد الحالي حيث سبق أن استخدمتالحجة ذاتها كغطاء لتمرير العلاقات مع تل أبيب.
في حين أشارت المهدي إلى أن القوات المسلحة أحالت “الاتفاقية للحكومة لإجازتها التي تتطلب وقتاً” حسب تعبيرها، وفي كلا الحالتين يبدو أن لواشنطن علاقة بالأمر، لا سيما عند قراءتها مع زيارة السفير أندرو يونغ نائب قائد القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم) للخرطوم في آواخر يناير 2021، ومحادثاته مع كبار المسؤولين بمن فيهم الفريق البرهان عن تعزيز العلاقات العسكرية بين السودان والولايات المتحدة، والتي توجت لاحقاً بزيارة قائد قيادة أفريكوم نفسه الجنرال ستيفن تاونسند، ومدير مخابرات أفريكوم الأدميرال هايدي بيرج للخرطوم في اكتوبر المنصرم وتأكيد تعزيز العلاقات اعسكرية بين البلدين، ومن الواضح أن شطب السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات أنعش آمال القادة العسكريين في التوجه غربا لتعضيد الصلات العسكرية مع واشنطن بمنافعها السياسية المرتجاة في إطار معادلة شراكة السلطة الانتقالية، وهو ما باتت واضحا معه أن ذلك سيكون على حساب العلاقات مع موسكو.
(11)
جاء “انقلاب 25 اكتوبر” قاصر النظر عن تبعات ردود فعل عواصم القرار الدولي الغربية على تداعياته، وما جرته من إعادة فرض حصار اقتصادي مجدداً أصبحت عواقبه الآن تشكل المهدد الرئيس على سلطة الأمر الواقع الراهنة، ومع انعدام الخيارات بما في ذلك دول الخليج، المشتبه بمولاتها للعسكريين، التي كفت يدها عن تقديم الدعم تحت ضغوط غربية، بدا أن الطريق الوحيد السالك هم أن تيمم السلطات وجهها تلقاء موسكو، فإذا غضضنا الطرف عن ما يمكن أن تثيره هذه الخطوة لدى عواصم القرار الغربية، سواء بفعل تأثير ذلك على عوامل الصراع الداخلي في السودان، أو في خضم معركتها مع موسكو بشأن أوكرانيا، وما قد يقود ذلك إلى المزيد من العقوبات وفرض حصار أشد على البلاد، فإن الوفد الرسمي يذهب إلى روسيا طالبا دعمها بعد أشهر قليلة من “التنكر” للاتفاق معها بشأن “مركز الإمداد” خطبا لود واشنطن، وعلى الرغم من أن الرئيس بوتين كان صدّق على الاتفاقية في نوفمبر من العام 2020، وفي ظل حالة الضعف هذه ستجد موسكو الفرصة سانحة لتفرض شروطها على تقديم أي دعم جدي للخرطوم، مع الأخذ في الاعتبار أن الصراع المحتدم حالياً حول أوكرانيا سيحد كثيرا من قدرتها للمساعدة في ظل تعرضها هي نفسها لعقوبات غربية.
(12)
مرة آخرى سيجد السودان، وبالآحرى غالب السودانيين، أنفسهم ضحية مقامرات خاسرة في إدارة السياسة الخارجية بنهج قصير النظر مفتقر للرؤية، لا يضع في الحسبان محدودية التأثير في صراعات خارج سياق قدراته، في حين تنعكس سلباً على مصالح البلاد حين تجد الأطراف الدولية الفاعلة الفرصة لمعاقبة السودان على خطوة غير محسوبة.

عن صحيفة إيلاف

٢٣فبراير ٢٠٢٢م

Comments (0)
Add Comment