حسن الترابي، تلك الشخصية المبتسمة دائما، التي حجبت السياسة عن كثير من السودانيين فكرها، وحجب فكرها عن كثير من العرب والمسلمين سياستها، فغدت محيرة للجميع. منذ بدايته، بل ربما منذ جذوره حتى، كان مثيرا للجدل، ربما كان هذا جزءا من تبعات العبقرية، وربما كان كذلك من تبعات الطموح، مثله مثل المهدي ابن تومرت، وأبي مسلم.. وغيرهم ممن ساقهم طموحهم إلى مدارات لم تخطر ببالهم، ولكنهم مضوا إليها، ولم ينتفعوا ماديا بشيء منها.
حسن الترابي ابن قبيلة البديرية التي يروج الكثير عن ذكاء أبنائها، ونبوغهم، وسليل أسرة دينية مميزة فيها، توارثت العلوم الدينية على امتداد ما لا يقل عن 400 عام، أما حسن الترابي ذاته فهو ابن عبد الله الترابي القاضي الشرعي الذي صبّ علومه في ابنه، كأغلب المشايخ، قبل أن يقدم على تسليمه للمدارس الحكومية الرسمية التي أرادت -وفقا لمصطلح الشيخ حسن- “غردنة” النشء، ومضى الترابي قدما فوصل إلى مدرسة حنتوب الأسطورية أيضا بحكم أن حكام السودان مروا بها، فإسماعيل الأزهري كان معلما فيها، والنميري، والترابي، والصادق المهدي، ومحمد إبراهيم نقد وغيرهم تعلموا فيها.. فالسودان تداوله أبناء حنتوب كالكرة، وأحد الهدافين كان الترابي الذي اتخذ السياسة طريقا موازيا للعلم والفكر.
فكريا، يصنف الترابي كأحد أبناء المدرسة العقلانية التي سارت في طريق محمد عبده، والأفغاني، ومن لفّ لفهم، ممن أرادوا عقلنة الإيمان، وناقشوا قضاياه بالعقلانية وحدها، ولست بصدد مناقشة نتاج هذه المدرسة ككل الآن، لكن المحصلة التي أمامنا في حالة الترابي هي محاولاته الكثيرة للتجديد في النظر الفقهي أصولا، وفي النص القرآني تفسيرا، وفي التنظير للقضايا الكبرى، فكتب عن الحرية، والفن، وتجديد الأصول، وقدم فتاوى عدّها الكثير شاذة، وانفرد الداعية السوداني محمد سيد حاج رحمه الله في مقطع فيديو تداولته الأسافير قبيل وفاته عام 2010 بمقولة طريفة:
“الترابي سلفي” لكن سلفه المعتزلة والخوارج ومن شاكلهم.
وقد أثبت الدكتور محمد المختار الشنقيطي أن لكل مقولات الترابي سابقا قد سبقه فيها، ومعنى هذا أن محصلة منهج الترابي من حيث النتاج لا تكاد تذكر عدا تزويج المسلمة بالكتابي.
على أن الأمر الذي ينبغي التنويه به هو أن الترابي نفسه عند سرده لنصوص فتاواه لم يكن مقنعا كثيرا، وإن علّل كلامه في تزويج المسلمة بالكتابي على أنه مقصور بحالات الاهتداء للإسلام، وكبر سن الزوجين بحيث يحتاج الطرفان إلى رعاية بعضهما، فالتفريق هنا شاق عليهما، وأقول ما سمعته من الرجل على الفضائيات نقلا، لا تقريرا، ولا تأييدا، فلست مختصا، لكن مقتضى الإنصاف يلزم بهذا.
على أن الأمر الذي عيب على الترابي هو بعض الألفاظ التي جرت منه كفلتات لسان في مقامات الأنبياء، وقد نقده جعفر شيخ إدريس عليها في مراجعاته على قناة النيل الأزرق مع الطاهر حسن التوم، ويمكن الرجوع إليها لمن شاء، فهناك زلات لسان لا تحتمل من عالم أو فقيه.
أما السياسة، فهي الجانب الذي ظلم الترابي فيه نفسه، وشعبه، ووطنه، والحركة الإسلامية، وظلم فوق ذلك فكره، فحجبه بالسياسة وشغبها، وضجيجها، ولربما لو أنه تفرغ للفكر وحده لكان نتاجه الفكري أعمق، وأكبر، وكان أثره أخلد، وأبقى، وعلى أي حال، فإن المتأمل في سيرته السياسية يلاحظ مسائل عديدة، ينظمها خط واحد هو التفرد بالقرار، والمضي بالطموح قدما إلى الأمام.
نظرية الترابي السياسية غير واضحة المعالم تماما، فهي تتأرجح بين الولي الفقيه السنّي، وتوازي الدولة والتنظيم، فهي من ناحية تقترب من دولة الحزب الواحد، ومن زاوية أخرى، وبحكم مؤتمره الشعبي العربي الإسلامي، تشعرك بأن الرجل أراد أن وليا فقيها يرشد ثورته، ويمضي بها قدما، لكن السيف غلب القلم، فجرت المفاصلة، ووقع المقدور.
أما لو مضينا في التفاصيل، فقد اختطّ الترابي لنفسه خطا متمايزا، فكانت الحركة الإسلامية بزعامة الترابي تتقدم الصفوف، فمضت في أكتوبر/تشرين الأول إلى الأمام، وانبرت لمنازلة الحزب الشيوعي، حتى طردته من البرلمان، وحسب رواية بعض شيوخ الدين السودانيين الراحلين التي نقلت إلي شفاهة، فإن الترابي قال لهذا الداعية:
“إن توجهي هو المعارضة، فأي فكرة لا تصدر عن حزبي، فهي مرفوضة”.
وانعكس هذا على تعامل الترابي ونظام الإنقاذ حتى مع الجماعات التي قد تشاطره بعض الخطوط العريضة، فمطاردة الإنقاذ للسلفيين في مطلع التسعينيات، وكذلك مطاردتهم للحزبين التقليديين الأمة والاتحادي اللذين يرجعان إلى مرجعية دينية صريحة كانت أمرا لافتا يستوقف الأنظار.
والترابي رجل قاد الحركة الإسلامية بتفرّد يقرّ به رجالاتها، ويمكن الرجوع إلى كلام الدكتور عبد الوهاب الأفندي عن تعامل الترابي مع التنظيم داخليا، وإلى كلام وإفادات كثيرين غيره، ولكنها تبعات العبقرية والذكاء، والقدرات الفائقة، وهذا ما ثبط مقدرات كثيرين من أبناء الحركة، وظهر في الهوة التي وقع فيها حزب المؤتمر الشعبي، والتيه الذي دخله المؤتمر الوطني عقب المفاصلة عام 1999م.
أما شهادته على عصره، فقد تمكن من إخلاء مسؤوليته عن كل ما جرى طوال نصف قرن أو يزيد من العمل السياسي، فادّعى أنه بريء من كل القرارات، ولم يدر شيئا، ولم يعلم بشيء، والحقيقة أنه لا يحتمل وزر الفترة الوجيزة عقب عام 1993م بسبب تداعيات إصابته في الرأس جراء اعتداء أحد السودانيين الساخطين عليه في كندا.. في واقعة شهيرة، أما ما عدا ذلك، فثمة إفادات كثيرة تفيد بعلمه، واطلاعه على كثير من الأمور، ولكن الرجل على أي حال بين يدي عالم الغيب والشهادة، ولسنا في مجال إصدار صك غفران له، ولا إدانته، ومحاكمته أخرويا.. فكلاهما غير سائغ، ولا مقبول، بقي في المقابل أن يقال:
إن الترابي أيضا لم ينهب مالا عاما، ولم ينتفع ماديا، بل مات بغير ثروة تذكر، وأوصى ألا يرث أبناؤه قيادة حزبه.
إن تركة الترابي السياسية قد أثقلت كاهل فكره حتى غاب تحتها، وترك وراءه أسئلة حائرة كثيرة عن مآلات الأشياء، وأسباب حدوثها، لا تزال أجيال كثيرة بعد 1989م تتساءل عنها، لقد كان بإمكان الترابي أن يتحول إلى مدرسة فكرية متجددة، لكنه بتفرده ترك خلفه أشخاصا يرددون مقولاته، ولا يستطيعون تجاوزها، ولا تجديدها والمواصلة بها، فخفت المؤتمر الشعبي تماما ليلحق بأخيه الوطني، ونسيت أجيال كثيرة فكر الترابي، وربما يأتي يوم يلتفت فيه أشخاص بحيادية أكبر لتقييمه، لكن الضجيج الذي صاحب موته، والهتاف الذي ساد حينئذ يوحي بأن الحركة الإسلامية لا تزال في حقبة السبعينيات، ولم تغادر بعد تلك الحقبة.