أمواج ناعمة
القاهرة والخرطوم.. هل يتجاوزان عقدة الملف الأمني؟
د. ياسر محجوب الحسين
حطّ الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة في السودان رحاله في القاهرة مجهداً متعباً تعتريه هواجس داخلية تنوء بحملها الجبال الراسيات، أمنية وسياسية واقتصادية. وبالرغم من أن زيارته للقاهرة في خواتيم الأسبوع الماضي، جاءت في سياق زيارات قام بها في ذات الأسبوع إلى كل من دولة الإمارات وجمهورية تشاد، إلا أن زيارته للقاهرة تكتسب أهمية خاصة جداً. ولربما أراد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي أعدّ لضيفه السوداني مراسم استقبال رسمي دافئة كأنها يوم الزينة، اظهار الدعم الكبير له وامتصاص ضغوطه وتبديد قلقه. لكن عندما تتزامن زيارة البرهان للقاهرة مع زيارة فولكر بيرتس الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها في السودان المعروفة اختصارا بـ”يونيتامس”، وكل منهما يحمل رؤية مختلفة للوضع السياسي في السودان مع تدني حالة الثقة بينهما لنقطة الصفر؛ فذلك يشير إلى أن القاهرة ربما استطاعت امساك زمام المبادرة في السودان وتحاول بل تتطلع إلى لعب دور ما في السودان، ربما دورها التقليدي الذي اضمحل تأثيره كثيراً.
وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الرسمية احتفت أيما احتفاء بتصريحات البرهان وأبرزتها وركزت على قوله: أن “أمن السودان وأمن مصر مكملين لبعضهما”، وأن “مصر كانت ومازالت تدعم الانتقال السلمي للسلطة في السودان”، و”نحلم بالتكامل المشترك مع مصر ونتعاون لمعالجة الفجوة الغذائية”. فهل هناك من جديد في علاقات البلدين يمكن أن يخرجها من اطارها التقليدي الرتيب، أم أن الضغوط والمصائب يجمعن المصابين لحين، فلا يتجاوز الأمر حدود التكتيك العجل وليس الاستراتيجي المتجذر. الخرطوم ومنذ عقود ظلت تتهم القاهرة بأن ملف العلاقات بين البلدين يقبع في كواليس المخابرات المصرية وليس في وزارة الخارجية كما ينبغي، في إشارة إلى أن السودان بالنسبة لمصر ليس أكثر من ملف أمني، رغم الحديث المتكرر عن التكامل الشامل بين البلدين. فالواقع يؤكد أن علاقات البلدين لا تتجاوز كثيرا مربع الحديث الكلاسيكي عن أنها علاقات تاريخية وأن كلا من البلدين يمثل عمقا إستراتيجياً للآخر.
ويبدو أن الظرف الحالي يفرض على الجانبين حوائج لكل منهما لدى الآخر؛ فالبرهان يشعر بقلق كبير إزاء تحركات نائبه الجنرال محمد حمدان حميدتي الذي يقود جيشاً موازياً للجيش السوداني تحت مسمى قوات الدعم السريع. فللرجل اتصالات قائمة مع طرف اقليمي يخشى البرهان أن تكون على حسابه. في ذات الوقت لا ترتاح القاهرة كثيرا لقوات الدعم السريع باعتبارها قوات بدت غير نظامية وغير احترافية وتفضل التعامل مع الجيش السوداني باعتبارها قوات نظامية احترافية لها تاريخ ناصع ممتد. كما أن القاهرة غاضبة من زيارة حميدتي الأخيرة إلى روسيا بعيد حربها مع أوكرانيا، وقد سلم مكتب الرئيس السيسي خطاب احتجاج رسمي إلى حميدتي في بادرة احتجاجية غير معتادة. فالقاهرة ينتابها قلقٌ مستمرٌ من التقارب الروسي السوداني، وخطط إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر. معتبرة خطراً على أمن الجبهة الجنوبية، وأمن منطقة البحر الأحمر، الأمر الذي يهدد أمن الملاحة في تلك المنطقة، مما يؤثر بشكل كبير على قناة السويس. وكان حميدتي قد قال أن السودان “لا يعارض إنشاء قاعدة روسية بشرط ألا يهدد ذلك الأمن القومي للبلاد”.
البرهان كذلك بصدد إعلان سياسي لكسر جمود الأزمة السياسية في البلاد ودعوة الأحزاب وقوى المعارضة والقوى الثورية مجدداً إلى الحوار. وبدا البرهان أكثر ثقة في الدور المصري من أدوار دولة أخرى بدت أقرب لحميدتي من البرهان. ولذا رأى البرهان ضمان الدعم المصري لمبادرته السياسية وأخذ مشورة القاهرة بشأنها باعتبار أن اهتمام القاهرة بما يدور في السودان، من منظور تأثيره السالب عليها. ويبدو أن مبادرة البرهان لا تجد قبولا من المبعوث الأممي فولكر الذي ظل يقف ضد المكون العسكري في السوداني ويحمله مسؤولية تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد. لكن القاهرة على لسان وزير خارجيتها الذي استقبل فولكر أكد له أن أمن واستقرار السودان يعتبر جزءًا لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر، مؤكدا أن الجهود الرامية لحل الأزمة من الضروري أن تستند إلى الأولويات والرؤى الوطنية السودانية الخالصة. ولعل البرهان بدا أقرب إلى الفعاليات السياسية السودانية المعارضة للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد الذي تمثله تحركات فولكر التي لم تزد الأزمة السياسية إلا تعقيدا وتأزيما. وقال البرهان في تصريحات صحفية أدلى بها خلال مؤتمر صحفي إبان زيارته القاهرة، قال فيها إن لدى البعثة “مهام محددة، ليس من بينها ما تمارسه حاليا”.
القاهرة فضلا عن أمن البحر الأحمر تريد أن تطمئن على موقف السودان من ملف النهضة وتعضيده، حيث يتبنى البلدان موقفا مشتركاً إزاء الملف إذ يرى البلدان في المشروع تهديدا لهما نظراً لاعتمادهما الكبير على مياه النيل، كما ينددان بما يصفانه “بالإجراءات الأحادية” من جانب أديس أبابا. كذلك لدى القاهرة محاولات مضنية لإبطاء عمليات تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل بدفع من طرف آخر عربي سبقت الإشارة إليه. وبشكل عام تخشى القاهرة من أن تدفع الأزمة السياسية والاقتصادية في السودان، المسؤولين هناك، إلى تقديم تنازلات لإسرائيل تؤثر على أمنها القومي من ناحية الجنوب الجغرافي.
لكن مع التقارب المصري السوداني الحالي تظل عُقدة العقد باقية بدون حل نهائي، والخاسر الأكبر فيها الخرطوم. وتلك العقدة هي قضية مثلث حلايب حيث يتنازع البلدان السيادة على المثلث منذ العام 1958، بيد أنه في 1995 قامت قوات مصرية بالسيطرة على المثلث بالقوة، ورفضت القاهرة اقتراح الخرطوم بالتفاوض أو التحكيم الدولي لفض النزاع بشأنه. ومع مرور الوقت وتجميد الخرطوم مطالبتها بما تراه أحقيتها في المثلث، فإن القاهرة تمضي في فرض الأمر الواقع من خلال عمليات تمصير واسعة للمثلث وتغيير ديمغرافي سيكون في صالح مصر إذا ما وافقت يوما على التحكيم الدولي.