قضية الغاز الروسي المتجه نحو أوروبا، والاتهامات الغربية لروسيا بابتزاز دول الاتحاد الأوروبي سياسياً. واندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية المستعرة، إضافةً إلى أزمة ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، تعطي لمحة عن الغاز الروسي وأهميته وتأثيره ، مع بروز تساؤلات عديدة عن قدرة الاتحاد الاوربي الاستغناء عن الغاز الروسي كعامل سياسي ضاغطٍ علية والتفلّت من تحكّم موسكو في الإمدادات.، فقد وقع الرئيس الروسي بوتين في نهاية مارس 2022 مرسوما يحدد نظاما جديدا لدفع ثمن امدادات الغاز الروسي من قبل المشترين من الدول (غير الصديقة لروسيا).
دخلت إيطاليا والنمسا وهنغاريا في كسر حاجز العقوبات الغربية بفتح حسابات بالروبل الروسي واعتماد الالية التي طرحتها موسكو بشأن تحويل اليورو الي الروبل في بورصة موسكو والالتزام بشروط التعاملات.
وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد حذرت الدول الأوروبية من الرضوخ للمطالب الروسية بدفع ثمن الغاز بالروبل، بإعتبار أن ذلك سيكون انتهاكا لنظام العقوبات المفروضة ضد موسكو على خلفية عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
وعلى ما يبدو، فلا يوجد أحد – في المدى القريب على الأقل – يمتلك القدرة على تقديم حلول عاجلة، أو طرح بدائل قادره على تعويض روسيا التي توفر نحو 45% من احتياجات الطاقة لأوروبا.
كل ذلك يقودنا إلى نتيجة واحدة مفادها أنَّ القارة الأوربية ستظل مُهدَّدة في مواجهة برودة الشتاء، القادم فيما تواجه مصانعها خطر الإغلاق بسبب وقف نقل الطاقة الروسية.
فالتساؤل الأكثر الحاحا ٍ، ما السبب الذي أوصل دولًا عظمى وقوية مثل دول الاتحاد الأوروبي، التي تخطط لاستراتيجياتها لعشرات السنين والعقود لرسم سياساتها ومستقبلها، إلى هذا الحال؟ في مواجهة رهانات ومعطيات يصعب التنبؤ بمالات الواقع الأوربي..
على وقع حربها في أوكرانيا وما خلفته من عقوبات غربية واسعة عليها، باتت روسيا الدولة الأكثر تعرضا للعقوبات حول العالم، متقدمة بذلك على إيران وسوريا وكوريا الشمالية من حيث عدد العقوبات الغربية.
ومنذ عام 2014م، خضع 2778 كيانا روسيا لعقوبات جديدة، ليصل عددها الإجمالي إلى 5530، الأمر الذي جعل مراقبين يشبهون هذه القيود الصارمة بالحرب الاقتصادية الأكثر اتساعا على موسكو.
وقبل روسيا، كانت إيران في الصدارة من حيث عدد العقوبات التي طالت 3616 كيانا، وفرضت على مدار عقد من الزمن، تليها سوريا (2608) وكوريا الشمالية (2077) وفنزويلا (651) وميانمار (510) وكوبا (208).
وتعد سويسرا الدولة التي فرضت أكبر عدد من العقوبات على روسيا بواقع 568، متجاوزة الاتحاد الأوروبي (518) وكندا (454) وأستراليا (413) والولايات المتحدة (243).
فالعقوبات قد انعكست سلبا ليس فقط على روسيا بل وعلى الاتحاد الأوروبي وكذلك أميركا، والسؤال هنا كيف يمكن للدول الأوروبية الاستغناء عن روسيا اقتصاديا؟ حيث تتمتع موسكو بحضور اقتصادي قوي جدا في أوروبا عبر صادراتها من الطاقة كالغاز والنفط، والتعاملات النقدية والمالية والتجارة، وهذه العقوبات ربما تنجح موسكو في تذليل تداعياتها عليها، فالاتحاد الأوروبي وهو المستورد الأول للنفط والغاز الروسيين وغيرهما من الصادرات. فهذه التداعيات قد تكون أكثر كارثية وخطورة جراء هذه العقوبات، فقد ارتفعت أسعار الغاز والوقود بشكل مهول في ألمانيا وبريطانيا ودولا اوربية اخري، والاقتصاد الروسي ما زال في أفضل حالاته من خلال ردود أفعال العقوبات الغربية وبفضل السياسات الاقتصادية الروسية الجديدة.
وما حدث ببساطة، أنه بينما لا يمكن لأوروبا والولايات المتحدة فرض عقوبات على الطاقة الروسية بسبب الخوف على السوق العالمي، يمكن لبوتين من جهة أخرى أن يفرض حظرا جزئيا على توريد موارد بلاده الاستراتيجية من الطاقة، مُثيرا الفوضى والذعر لدى جيرانه الأوروبيين، ومُستفيدا في الوقت نفسه من الارتفاع الجنوني للأسعار.
أوكرانيا.. بداية الانهيار الاقتصادي العالمي:
مع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ قفزت أسعار النفط إلى مستويات قياسية، وصلت حاجز 140 دولارا للبرميل (قبل أن تتراجع لاحقا حول مستوى 100 دولار لحظة كتابة هذا التقرير)، كما وصلت أسعار الغاز إلى مستوى تاريخي بـ 3300 دولار لكل 1000 متر مكعب بسبب مخاوف تعطل الإمداد.
ومع تمدد أيام الحرب، يخشى العالم من ثورة مُدمِّرة أخرى في الأسعار، حال قرَّرت أوروبا حظر صادرات الطاقة الروسية، أو قرَّرت موسكو بنفسها اتخاذ هذه الخطوة في اندفاع غير مسبوق، خوفا من انهيار اقتصادها تحت وطأة العقوبات، وهو ما سوف يقود في النهاية إلى ارتفاع جنوني في الأسعار يؤثر على اقتصادات العديد من الدول ويدفعها ربما إلى الانهيار.
في شتاء عام 2009م تجمَّدت أوروبا من البرد، وسقطت عدة دول فيها تحت طائلة الديون، إثر اتهام موسكو لكييف بسرقة الغاز المخصَّص لأوروبا الذي يمر عبر أراضيها، لتدفع هذه الأزمة روسيا إلى اتخاذ خطوات عقابية شملت قطع الغاز عن أوكرانيا وعن كل الزبائن الأوروبيين من خلفها.
دفعت هذه التجربة اوربا إلى السعي بشكل جاد عن بديل للطاقة الروسية، لكن رحلة البحث هذه انتهت بالفشل بعد أن عجز البدلاء الجُدد عن الوفاء بوعودهم، فالنرويج، وهي ثاني أكبر مورد للغاز لأوروبا بعد روسيا، تتجه حقولها إلى النضوب، أما هولندا، فقد اتجهت مضطرة لتخفيض إنتاجها إلى أقل من النصف بنحو 21.6 مليار متر مكعب، للحد من مخاطر الزلازل التي سبَّبها سحب الغاز من باطن الأرض، لتزيد روسيا بذلك من سطوتها على سوق الطاقة الأوروبي. إذ تستطيع روسيا توفير أكثر من 320 مليار متر مكعب منه سنويا، ما يجعلها محطة وقود عملاقة بامتياز.
باءت كل المحاولات الاوربية بالفشل للاستقلال عن الغاز الروسي رغم المساعي الحثيثة لواشنطن التي حاولت رفع صادراتها إلى دول الاتحاد الأوربي، مُستفيدة من تربُّعها على عرش قائمة الدول المنتجة للغاز بنحو 914 مليار متر مكعب، وهو ما يفوق الحصة الروسية بنحو 300 مليار متر مكعب.
خاضت الولايات المتحدة مباحثات مُضنية مع أوروبا بهدف إعادة تسعير الغاز الأميركي لجعله أكثر تنافسية مع الغاز الروسي، لكن كل ذلك لم يكن كافيا لسحب يد الروس، نظرا لعدة اعتبارات اقتصادية بحتة، أبرزها أن الغاز الروسي يتمتع بأفضلية سعرية، نظرا لوصوله إلى العملاء عبر الأنابيب، بحكم القُرب الجغرافي وتوفر البنية التحتية، بعكس الغاز الأميركي الذي يُنقل مُسالا، بتكلفة عالية، عبر البحار.
وفي الآونة الأخيرة، طالبت الولايات المتحدة قطر ودولا أخرى مثل اليابان بتحويل إمدادات غاز لأوروبا إذا تصاعد الصراع. لكن معظم الدول المنتجة لديها عقود آجلة لفترات طويله الأجل، وان الفائض لا يكفي لتعويض الإمدادات الروسية..
وبخلاف البدائل الأمريكية انخرطت أوروبا في خطط مختلفة، تركية وإسرائيلية وإيرانية وقطرية، تهدف جميعها إلى اقتطاع حصة أكبر من المورد الرئيسي التقليدي للأوروبيين، لكنها باءت بفشلٍ ذريع في محاولة أجرتها مع كل واحدة من هذه الدول.
بدائل الطاقة الروسية:
لم تغامر أوروبا حتى الآن بلي ذراع “بوتين” من بوابة حظر قطاع الطاقة، رغم وضع الوكالة الدولية للطاقة خطة عاجلة من عشر خطوات للاتحاد الأوروبي، بهدف الاستغناء عن الغاز الروسي في غضون عام، حتى لا يقع الأوروبيون فريسة للدب الروسي في الشتاء المُقبل.
وتتضمَّن تلك الخطة البدء الفوري بتنويع إمدادات الوقود الأحفوري من عدة دول بعيدا عن روسيا، وتقليص نسبة الاعتماد من روسيا، والتحوُّل بشكل أسرع إلى الطاقة المتجددة، والأهم من ذلك عدم تجديد العقود مع موسكو بعد انتهائها.
يراهن الغرب عبر هذه الخطوات، التي يُشكِّك الروس في أن تؤتي أُكلها في المدى القريب، على بدء فصل جديد من العقوبات لا تستطيع موسكو الرد عليها وتشمل وبشكل أساسي قطاع الطاقة.
تبدو اللعبة الاقتصادية بين الغرب وروسيا بمنزلة السباق على مَن يضغط على الزر أولا، ولا يمكن لأي طرف فيها أن يدَّعي أنه سيكون قادرا على إلحاق الضرر بخصمه دون أن ينال نصيبه من الأضرار أولا، فالصراع والمواجهة المحتومة ذات كلفة عالية وقد يصعب التكهن بما تحمله الايام في المستقبل القريب.. مما يجعل الامور تقفز إلى الأمام وتصعد إلى مواجهة غير محسوبة.
د. شوقار بشار ضيفه
أستاذ العلاقات الدولية/جامعة النيلين
كليه الدراسات الاقتصادية والاجتماعية