✍️ د. محمد كرم الله
الجزء الأول
الحمد لله الذي هدانا إلى صراط مستقيم، ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، وصلوات الله وسلامه على رسول الله إلى الناس أجمعين، المبعوث بخير دين، وعلى آله ومن اهتدى بهديه.. وبعد
قرأت مقالاً للصحفي عثمان ميرغني “رئيس تحرير صحيفة التيار”، قد وضع عنواناً له: “الدين قيمة صفرية”، وهو مقال لا يصدر مثله إلا عن صاحب “هوية صفرية” في الانتساب إلى دين الإسلام والانتماء إليه.. فنهض القلم من اتكاءته لكتابة مقالٍ متواضعٍ في التعقيب على القضايا التي أثارها الكاتب، والتصورات التي تقدَّم بها خلال مقاله، راجياً أن يضع حواراً واضح المعالم لمن يطلع على المقالين من ذوي الاهتمام بالأمر.. وإني ليؤسفني أن يظهر مثلُ هذا الاعتلاج في هذا التوقيت “الحرج” الذي يضيق عن استيعاب مشكلات البلاد المتتابعة في الظهور، المعضلة في إيجاد المخارج والحلول، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل..
👈 دمعة من مداد
بين يدي هذا الحوار نسكب دمعة من مداد على غياب مطلبٍ عصريٍّ ملحٍّ، قد أُلِّفَت فيه مصنفات مستقلة، تم نشرها في المكتبات العالمية، وبثها في الموسوعات الالكترونية، وطرحها في قاعات مؤسسات التعليم العالي ومكتباته، ألا وهو: ضرورة التوجه إلى “الصحافة المتخصصة” وإيجاد “الصحفي المتخصص” الذي يحرر الموضوعات عن معرفة دقيقة، وأهلية كافية، تنجو به من أن يركب متن عمياء، أو يخبط خبط عشواء.. خاصة في ظل هذا التهريج المعرفي، والتشغيب الفكري، الذي صار معه “كل أحد يتكلم في كل شيء” عبر وسائل التواصل والفضاء المفتوح.. وقد أطل زمانٌ ابتلينا فيه بالقلم “الطفيلي” والكاتب “المتشبع بما لم يعط”، في ظاهرة يمكن الاصطلاح على تسميتها ب”ظاهرة أخصائي كلو” التي أظهرتها أقلام انتحلت في كل مجال في العلم والمعرفة شخصية، ولبست لكل مقال ثوباً لا يعدو أن يكون ثوب زور، فتجد الكاتب من هؤلاء؛ اليوم يكتب في العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية بنَفَس الخبير المختص، وغداً يعالج قضايا الاقتصاد والمال بنَفَس الأستاذ من بين الدرجات العلمية والرأسمالي الذي عركته التجارب العملية، وبعد غد يتجه إلى قضايا الاجتماع ليكتب بنَفَس الباحث الاجتماعي المحقق، وبعدها يكتب عن قضايا الأديان ليخط بنفس عالم اللاهوت المختص بدراسة مقارنة الأديان، وإذا أتى الكلام عن القضايا الصحية تكلم بنفس الممسك بملفات الصحة العالمية والإقليمية والمحلية جميعا، ..وهكذا في كل القضايا المطروحة على اختلاف مجالاتها !!…
لقد كتب الصحفي عثمان ميرغني مقاله بلغةٍ تجاوزت حدود القلم الذي يدون خبراً مجرداً، أو يرصد ظاهرةً عابرة، أو يستطلع الرأي في شأن من الشؤون … ونحو ذلك، إلى مجال التأصيل الفقهي والبحث العلمي الموضوعي، الذي له أسسه وضوابطه، وأدواته ووسائله، التي ئؤهل للكتابة فيه.. فتجده يقرر من الكليات والجزئيات في الاعتقاد والعمل، مخرِّجاً عليها من المسائل والفروع التي يستدل لبعضها بما يراه من القرآن تارة، وبما يراه من السنة تارة أخرى، تتخلل ذلك عبارات التجهيل للمخالفين والتسفيه لآرائهم، ووصفها بالخروج عن الاعتدال والوسطية، ومفارقة هدي الإسلام …. إلى غير ذلك من المسالك التي تحملك على الشعور بأنك تقف أمام أحد أساطين العلم والمعرفة، المحققين في علوم الدين والشرائع، الذين تُوِّجت بهم المجامع الفقهية الدولية، واحتفت بهم المؤسسات التعليمية العالمية… ولا أظن أن مثل هذه النفسية ستترك مجالا لتلك المجامع والمؤسسات لتظهر قولها في المسالة المطروحة، خاصة مع موجات “التخوين” و”الشيطنة” الممنهجة لإسقاط هذه المؤسسات والكيانات والعلماء المختصين، بغرض إحداث حالة من الارتجاج الفكري، والتيه المعرفي، يتصدر فيها الوضعاء، وينطق فيها الرويبضة السفهاء..
👈 في بواعث الكتابة؛ ما بين المقال والتعقيب
إنَّ السبب الأساس الذي حرك الكاتب عثمان ميرغني لكتابة مقاله كما بينه؛ هو “الضجة” التي “ثارت” من خلال وسائل التواصل حول قضية الترحم على صحفية قناة الجزيرة التي ماتت على غير دين الإسلام..
وهذا الواقع الذي ذكره الكاتب قد شاركته الاطلاع عليه، غير أني لم أكتب فيه حرفاً واحداً قبل هذا المقال، ذلك لأن الواقع لم يكن ليعدو ثلاثة أحوال؛ فما بين مذكِّر بمنع الإسلام للترحم والدعاء لمن مات على غير الإسلام مستدلاً لكلامه ببعض نصوص الوحي، وما بين خائض في القضية ليقرر عدم المنع استناداً على أدلةٍ متوهمة أو على خلفيات فكرية تقدس الحقوق البشرية الوضعية وتهدر الحقوق المقدسة الدينية، وما بين صنف ثالث آثر الصمت نظراً لتلكم المعطيات؛ فمن تكلم ببيان الحكم قد كفاه مؤونة البيان لمن يحتاج إليه، ومن خاض مع الخائضين فإنه قل أن ينجو من اتخاذ منهج الصراع ومبدأ ركوب الرأس في فرض رؤيته بلا رَويَّة ولا تفكر، لا يلتفت في ذلك إلى غير قوله ورأيه..
الكاتب في مقاله الذي نشره لا يخرج عن هذه الأحوال الموصوفة، ولست عَجِلاً لتصنيفه قبل محاورته بهذا المقال الذي يشاركنا قراءته المهتمين بالقضية، مع التنبيه على أني لم أكن لأكتب هذا الحوار المفصَّل إن كان مقال الكاتب قد وقف عند مجرد إطلاق الحكم بالجواز أو المنع…، لكن الأمر قد تجاوز هذا القدر بمفاوز ومسافات بعيدة، ذهب من خلالها الكاتب يؤسس لرؤية فكرية خاصة، يقدمها على أنها منهج الاسلام المعتدل الذي دلت عليه نصوص الوحي، أقدم من خلالها على إهدار “قيمة” الاعتقاد الديني الذي وصفه ب”القيمة الصفرية” ، كما ذهب يقرر التسوية بين جميع المعتقدات والأديان والمناهج الفكرية طالما أنها نتجت عن قناعة ذاتية، وأن الإنسان لا يحاسب على اعتقاده لهذا أو ذاك، وإنما يحاسب على سلوكه في معاملة غيره من بني الإنسان فقط !!، وقد ذهب كاتبنا في جميع ذلك يستدل بوضع نصوص من الوحي في غير مواضعها جزافاً.. ولن أكون مبالغاً لو قلت إن الكاتب بتصوراته التي قررها في مقاله هذا قد أهدر المقصد الأعظم لرسالة الإسلام، الذي نوَّهَت عليه نصوص الوحي، وهو إخلاص الدين والقصد لله ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) )، كما أهدر عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته إلى الناس كآفة، وأنهم مأمورون باتباعه وطاعته، وهو الأمر الذي تتابعت في تقريره آيات القرآن الكريم، كما في قول الله تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) )، وهذا ما دلَّ عليه صريح القرآن، وليس الأمر مجرد “أفكار داعشية’ كما يسميها الكاتب تماهياً مع حملات التطويع لمنهج الإسلام تحت مطرقة “رهاب الإسلام” = “إسلاموفوبيا”.. فالطرح الذي تقدم به الكاتب -عمدا أو خطأ- يخدم مساراتٍ مرسومة لتطويع منهج الإسلام، قد بُذلت فيها جهود ووسائل مادية لو بذل عشرها تجاه أي ديانة أخرى لم تكن قائمة على وجه الأرض يدين بها أحد من الناس، ولكنه الدين الذي تكفل الله بحفظه وقيض له من يدفع عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين…
👈 لا جديد في الأمر؛ فالمسألة ليست نازلة عصر
إنَّ الذي يسمع هذا الصراخ والعويل، ويرى التهويش والتهويل في موجات التنازع حول مسألة الدعاء لموتى غير المسلمين بالرحمة، قد لا يتوقع أن المسألة قد سبق لها في الإسلام حكمٌ، ونزل في شأنها وحي تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به، وفهمه المسلمون وعملوا به كذلك، في واقعة لا تختلف عن التي يخوض فيها الناس اليوم؛ فإن كانت الصحفية التي ماتت على غير الإسلام قد بذلت خدمة جليلة في الدفاع عن المسجد الأقصى، وعن حقوق الفلسطينين، من خلال قناة تشغل فيها عملاً وظيفياً يخدم أهداف تلك القناة وأغراضها، وتوجهاتها الكلية والجزئية، مقابل أجر مبذول من تلك القناة؛ فإنَّ من نزلت في شأنه آية النهي عن الاستغفار والدعاء لمن مات على غير ملة الإسلام، قد بذل في حياته جهوداً لحماية رسول الله ومبلغ رسالته التي نوهت بمنزلة المسجد الأقصى، والتى آمن بها أكثر سكان فلسطين، وصاروا بعد بلاغها من أتباعه، هي جهود أعظم وأجل من جهة “كمها ونوعها” ومِنْ جهة مَنْ بُذلت له “خير الناس ومعلمهم الخير”، وهي جهود بُذلت من غير تعاقدات مهنية، ولا معاوضات مادية، بل دفع من بذلها ثمناً بالمقاطعة الاجتماعية والمحاصرة الاقتصادية كما تواترت به دواوين السيرة والتاريخ … تلكم الجهود التي بذلها أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب، وعمره يومها نحو ثمان سنين، فكان يحبه أكثر من ولده، ويؤثره عليهم، حتى إذا بلغ سن الأربعين، ونزل عليه الوحي، وفضله الله بالنبوة والرسالة، ووجد في ذلك من الأذى والعداء؛ لم يتخل عنه عمه مع كافة ألوان “الضغوط” والمساومات التي صدرت عن سادة قريش وزعمائها للصدِّ عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فظلَّ أبو طالب مستمسكاً بموقفه من حماية النبي الكريم والذود عنه، وقد أنشد شعراً يبعث اليأس في نفوس الطامعين في النيل من النبي الكريم ودعوته، حيث قال:
وَاللَهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم
حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا
فَاِصدَع بِأَمرِكَ ما عَلَيكَ غَضاضَةٌ
وَاِبشِر بِذاك َ وَقَرَّ مِنهُ عُيونا
وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِحٌ
وَلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ ثَمَّ أَمينا
وَعَرَضتَ ديناً قَد عَلِمتُ بِأَنَّهُ
مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دينا
لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً
لَوَجَدتَني سَمحاً بِذاكَ مُبينا
ولما فشلت أساليب قريش في الصدِّ عن الإسلام، وقرَّروا حصار بني هاشم اقتصادياً واجتماعياً، وتواثقوا على ذلك، وكتبوا وثيقتهم التي علقوها في جوف الكعبة؛ أمر أبو طالب بني هاشم أن يدخلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شِعبه غير مبالٍ بتبعات هذه المقاطعة الخطرة، واستمر هذا الحصار نحو ثلاث سنوات، وجدوا فيها مشقة وجهداً عظيماً… فلم يزل أبو طالب على موقفه حتى حضرته الوفاة في السنة العاشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه صاحب الخُلق الكريم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطمع في إسلامه في هذه الساعة “الحَرِجة” وفاءاً له، وحرصاً على نجاته وسلامته، فقد صح عند الإمامين البخاري ومسلم: { أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال عليه الصلاة والسلام: أي عم؛ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه، فنزلت الآية ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم (113) ) ِ} .
هذا الموقف وقع في حضرة نبي الرحمة الذي قال الله في شأنه : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )، مع ذلك فقد قيَّد استغفاره لعمه بعدم نهي الله عنه، ووقع هذا الموقف كذلك بتقدير أرحم الراحمين، مع هذا قد أنزل بسببه قرآناً ينهى عن الاستغفار لأبي طالب -ومن مات من غير المسلمين- لحِكمةٍ يعلمها سبحانه أحكم الحاكمين… وجاءت الآية التي تليها تبين موقف خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في ترك الدعاء لأبيه طاعة لله، وهي قول الله تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) )، … ونبي الله نوح عليه السلام لما دعا الله راجياً نجاة ولده -الذي اختار أن يكون مع الكافرين- من الغرق، نهاه الله بقوله : ( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) .. عندها ما كان من نوح إلا التسليم قائلا : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ).. فهؤلاء ثلاثة من أولي العزم من الرسل؛ نبينا محمد وإبراهيم ونوح عليهم الصلاة والسلام، جميعهم تَرَك الدعاء لأقرب الأقربين، طاعة لرب العالمين، بترك ما لم يأذن به من الأقول والأحوال… فهو الذي يحكم لا معقب لحكمه، ( يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)، يرحم بفضله ويعذب بعدله… فالذي يرحم هو الله، والذي يعذب هو الله، وحده لا شريك له، ونحن عباده لا نوجب عليه أن يرحم هذا أو يعذب ذاك، وإنما نسأله وندعوه ونرجوه، فإذا سألناه ودعوناه فإنما ندعوه فيما أذن فيه، وبما أذن به، واقفين عند حدوده، لا نجترئ على ما لم يأذن به، ولا نتقدِّم على أمره ونهيه..
👈 بين خُلق الوفاء وترك الترحم والدعاء
هنا سؤال قد يخطر على قلب كل من عَرَف الوفاء، وينشد قيم العدل والفضيلة، ألا وهو؛ هل يلزم من عدم الدعاء لمن مات على غير الإسلام وترك الترحم عليه بعد موته؛ إنكار جهوده ونسيان فضله؟
وجوابه: أنه لا يلزم ذلك
فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حزن على موت عمه أبي طالب حزنا شديداً لكونه العم الذي وفَّي بما عُهد إليه من كفالة ابن أخيه في صغره وصباه، ثم لم يزل بعد النبوة والبعثة مدافعاً عنه صابراً على ما يجده من الأذى، فاتصل بذله مدَّة تزيد على أربعين سنة.. فحَزِن رسول الله لفقد عمه الوفي وانقطاع مواقفه النبيلة من جهة… وحَزِن عليه كذلك من جهة أنه لم يهتد للإيمان بنبوته ورسالته، مع ما كان عليه من القرب والذود والنصرة والشهادة بأن الدين الذي جاء به ابن أخيه هو خير أديان البرية، مع ذلك فقد اختار البقاء على ملة الآباء خشية المذمَّة، فكان هذا مما أحزن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي حرص على هدايته.. ثمَّ تتابع علماء المسلمين الذين صنفوا في السيرة النبوية ودونوا التاريخ الإسلامي على ذكر هذه الأعمال الجليلة والجهود الكبيرة التي بذلها أبو طالب لكفالة النبي صلى الله عليه وسلم في صغره وحمايته بعد بعثته ودعوته للناس..
وتحمل إلينا كذلك روايات السيرة النبوية؛ أن سفانة بنت حاتم الطائي لما وقعت في الأسر وأتي بها إلى المدينة؛ تكلمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها ابنة حاتم الطائي الذي عرف بكرمه بين أحياء العرب، فأكرمها النبي صلى الله عليه وسلم بفكاكها وكسوتها وحملها وأعطاها نفقة وأرسلها إلى أخيها عدي مع رهط من قومها، فيهم من وثقت به وأمنته لرفقتها، وكان ذلك سبباً لإسلامها وإسلام أخيها الذي أتى طواعية إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرَّ إلى الشام..
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المطعم بن عدي يوم بدر بسبب ما كان له من مواقف نبيلة حفظها له بعد موته، وكان المطعم قد مات على غير الإسلام، ففي صحيح الإمام البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر : ( لو كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى؛ لَتَرَكْتُهُمْ له )، فالمطعم بن عدي هو أحد النفر الذين تعاقدوا على نقض صحيفة المقاطعة الجائرة على بني هاشم، وهو الذي دخل إلى جوف الكعبة لتمزيقها، فوجد أن الأرضة قد أكلتها إلا “باسمك اللهم”، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة أهل الطائف لم يستطع دخول مكة إلا في جوار المطعم بن عدي، فحفظ له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعروف، ونوه بفضله يوم بدر بقوله : ( لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له )..
فحِفظُ المعروف والفضل لمن بذله من الناس ولو كان على غير الإسلام؛ من مكارم الأخلاق التي اتصف بها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وترك فيها لأتباعه أثراً للاقتداء به على تعاقب الأزمنة واختلاف الأمكنة… وهذا النوع من السلوك هو باب في معاملة الخلق.. وأما الدعاء للميت، فإنه مع ما فيه من طلب الخير له وإرادة الإحسان إليه؛ فإنه في الأصل معاملة للخالق وعبادة له، وحقيقة العبادة أنها تجمع الأقوال والأفعال التي يحبها الله ويرضاها، والسبيل إلى معرفة ما يحبه الله ويرضاه من أفعالنا وأقوالنا هو الوحي الذي أوحاه إلى رسوله المبلغ عنه، فإذا نهى الله عن الدعاء لمن مات على غير الإسلام؛ علمنا أنَّه مما لا يحبه ولا يرضاه، ويلزمنا الكف عنه، وقوفاً عند حدوده، وإرضاءاً له سبحانه، الذي له الحِكمَةُ البالغة في خلقه وأمره…
👈 في دلالة عنوان المقال “الدين قيمة صفرية”
يتبع الجزء الثاني بإذن الله