حوارات حول الأفكار… (100)    الدولة.. مؤسسات و أدوار (2)

حيدر معتصم

الثابت في تاريخ البشرية قديما و حديثا أن الأوطان تبني بالرؤي و الأفكار و لا تبني بالشعارات العاطفية و الهتافات الحماسية المرتبطة بالعمل الثوري الجماهيري و لايفوت على فطنة القارئ الفرق إصطلاحاً بين الحشد الثوري الذي هو جزء من الثورة و يعتمد في نجاحه على  الشعارات و الهتاف و الحماس من أجل إبقاء جذوة الثورة حية و بين مصطلح ثورة  الواسع الذي يجمع بين الهدم وإعادة البناء عبر مراحل متعددة ، و مما لا شك فيه فإن غياب أو تغييب الدور المحوري للعقل ممثلاً في بناء الأفكار والرؤى والتصورات و التخطيط التي بدورها تعمل على تحويل هتافات الثورة وشعاراتها إلى برامج مبدعة فسيكون لغياب العقل أثار محبطة ومدمرة للطاقات الموجبة و إيقاع تصاعد الحس الوطني بعد كل عمل ثوري و تقوم بتحويل ذلك الحس الوطني إلى طاقات سالبة في وجدان الجماهير و شعور بضياع أحلامها و أشواقها و ضياع الوطن و هذا ماظل يحدث كل مرة و يؤدي إلى هزات إرتدادية تجعل الجماهير تقبل مرة أولى و ثانية و ثالثة و رابعة بالإنقلاب العسكري إشفاقا و خوفا على ضياع الوطن بعد ضياع الأحلام…و الثابت أيضا في تاريخ السودان الحديث أن الأحزاب السياسية عجزت عن إنتاج أفكار تحقق أحلام الجماهير و تنقذ الوطن ثلاث مرات و هاهي تعجز مرة رابعة و هي تغرق في مستنقع الهتافيات و تسقط في إختبار إنتاج الأفكار…
إن الركون إلى منطق الشعارات و الهتافيات التي ظلت تقود العمل السياسي في السودان منذ الإستقلال هي أحد القضايا المحورية التي تستحق الإهتمام كأحد المفاتيح الهامة للخروج من المأذق التاريخي و الخروج من ذلك المأذق يحتاج إلى شجاعة و جرأة في البحث عن أفكار جديدة خارج الصندوق القديم و لذلك تظل فكرة تأسيس ميثاق شرف بناء مجتمع مدني من خلال القطاعات المهنية المختلفة بإعتبار أن ميثاق الشرف هو الخطوة الأولى لبناء التيار الوطني التوافقي من جهة و وضع اللبنة الأولى لبناء الدستور من جهة ثانية بإعتبار أن المعركة القادمة ليست معركة إنتخابات أو غيرها و إنما هي معركة بناء الدستور  بإعتباره الأولوية القصوى في بناء الدولة تحت شعار الدستور أولاً…
من الجيد أن تكون لدينا شعارات واضحة و ملهمة تعبر عن تطلعاتنا و من الجيد أن نعمل بجد على ترسيخ هذه الشعارات في أذهان الشباب و الجماهير من أجل شحذ الهمم و لكن من المعيب جداً أن تتحول هذه الشعارات في عقول الشباب إلى حالة من الإدمان الهستيري بدلاً عن ربطها  برؤي و أفكار و خطط و برامج تعبر عنها من أجل تحويلها إلى واقع معاش مما يجعل من الخطورة بمكان تحويلها إلى طاقة سالبة مدمرة  للوطن  و للشباب و يعبر ذلك بالطبع عن عجز القوى السياسية في القدرات على مستوى التخطيط الإستراتيجي و تلك حالة مستعصية ظلت ملازمة للنخب السودانية على مدى تاريخها الطويل في إعتمادها على الهتافيات في تعبئة و شحن الجماهير فهاهي الثورة تدخل عامها الرابع و الشباب مازالوا يهتفون على الطرقات و يدفعون الثمن بدمائهم و أرواحهم في ظل غياب شبه كامل لأي أفكار ملهمة تعمل على إنقاذ الثورة من اللحاق بسابقاتها أكتوبر و أبريل و من المعروف أن الهتاف في طبيعته يعبر عن الطهرانية و النقاء و صدق المشاعر و علو كعب سقف الأحلام و يظل المحك و التحدي الحقيقي أمام تلك القوى السياسية في العمل علي تحويل تلك  الهتافات و الشعارات إلى أفكار و برامج عملية تستوعب طاقة الجماهير في الإتجاه الإيجابي و إلا ستتحول تلك الهتافات و الشعارات إلى طاقة سالبة مدمرة قابلة للتحول إلى حالة من إنسداد الأفق والكراهية و العنف المتبادل  مما يعطل حيوية العملية السياسية برمتها و تحويل الوسط السياسي إلى فوهة بركان دائم الفوران و الصدام وسط الجماهير و نلاحظ بوادر تلك الحالة في فيما يكتنف الشارع الآن من غضب و إحتقان لايبشر بأن أحلام الشباب و تطلعاتهم تمضي على الطريق الصحيح.
من المعروف فلسفيا إن إعتماد  العملية السياسية برمتها على رفع سقف الطموحات عن طريق الشعارات الملهمة والهتافيات يرفع تلقائيا من مستوى الأحلام و التطلعات عند الجماهير و التي يمكن أن تتحول إلى حالة من العنف الممنهج إذا لم تجد من يحول تلك الشعارات و الهتافات إلى أفكار و برامج و ما رشح من مسميات لبعض لجان المقاومة مثل غاضبون و ملوك الإشتباك و غيرها هو إنعكاس أو تعبير مباشر عن حالة الغضب و الإحتقان التي تتسيد الساحة الآن.
لنأخذ مثالاً لأحدأكثر الهتافات المعروفة و المتداولة بكثافة هتاف .. العسكر للثكنات.. و دعونا نتفق بدأً على فكرة إبتعاد الجيش عن العملية السياسية بشكل مباشر و الجيش نفسه ممثلا في قيادته يقر بذلك و لكن تظل المعضلة في كيف يتم ذلك و يصبح واقعاً على مستوى الرؤى و التصورات و الأفكار و الخطط و البرامج و هذا ما عجزت عن القيام به القوى السياسية تاريخياً و يرجع  ذلك مباشرة لعدم صدقية تلك الأحزاب في خطابها للجماهير و يبدو أن واقع الممارسة للقوى السياسية السودانية يثبت أن تلك القوى تمارس السياسة بالتاكتيك و لاتعرف الإستراتيجي و لذلك فهي دائما في حوجة ماسة للبندقية وما حديثها عن عودة العسكر إلى ثكناتهم إلا حديثا تكتيكيا تستخدمه لخداع الجماهير في مشاريعها الإستئصالية ضد بعضها البعض و لو كانت القوى السياسية جادة في دعواتها لإخراج العسكر من المعادلة السياسية لعملت على ذلك من خلال مشروع وطني مشترك ليس فيه مساحات للمناورة و الإدعاء السياسي.
من المعلوم بالضرورة أن السودان دولة فتية بمعنى أن عنصر الشباب هو العنصر الغالب و تلك ميزة تنافسية كبيرة تقلل من حجم التحديات لو تم إستثمارها بطريقة جيدة نحو البناء الوطني و التنمية المستدامة و لا ينتابني شك في صدقية الشباب الذي يملأ الميادين هذه الأيام هنا وهناك  من التيارات المختلفة يمينا و يساراً بأنه شباب يحمل كل معاني الصدق و الحب و الوفاء لهذا الوطن و هو شباب يحلم بمستقبل أفضل بتجرد و ثبات و كل ماينقص هذه التيارات الشبابية المتنوعة هو قيادة قادرة على تفجير طاقاتها و تحويلها إلى مربع الفعل الموجب و في تقديري إن ما يحدث من عبث من الكبار بإسم السياسة هو العقبة الكؤد التي تقف حائلاً بين هؤلاء الشباب و تحقيق تطلعاتهم وأشواقهم في البحث عن الحرية والسلام والعدالة والعيش الكريم فيا هداكم الله أصلحوا حالكم و إرتقوا إلى مستوى الوطن ينصلح حال الشباب و يعود الوطن إلى وطن يسع الجميع و يبنيه الجميع … نواصل.
حيدر معتصم

Comments (0)
Add Comment