قلوب لا تصدأ 🟢

قلوب لا تصدأ 🟢

💠 صلاح محمد عبد الدائم (شكوكو)

▪️يروي صاحب القصة فيقول : في نهايات العام 2012 كنت بمعيّة صديقي اليوغندي (داؤدي) الذي يعمل معي في كمبالا .. كنا نستغل حافلة ركاب في طريقنا إلى السوق .
▪️وبينما نحن في الطريق وفي إحدى المحطات ركب شاب من جنوب السودان .. وعرفت من سحنته أنه غالبا ما ينتمي إلى قبيلة الدينكا .
▪️جلس الشاب الجنوبي في الكرسي الذي يلينا مباشرة .. وإنتبه الىٌ فجأة عندما رددت على التليفون باللهجة السودانية .
▪️إنتظر حتى أنهيت المكالمة فسلم علىٌ بحرارة بادية .. و تجاذبنا بعض أطراف الحديث .. عرفت منه أنه طالب في إحدى الجامعات في كمبالا .
▪️عند مرور الكمساري دفعت له قيمة التذكرة .. نزل من الحافلة بعد محطتتين و شكرني بحرارة ثم إنصرف الى حال سبيله .
▪️ كان صديقي اليوغندي ينتظر نزوله بفارغ الصبر .. فسألني إن كنت أعرفه ؟؟ .. قلت له إنها المرة الأولى التي أراه فيها و لا أعرف حتى إسمه .. وكل ما أعرفه عنه أنه سوداني وهذا يكفي .
▪️قال لي : إذن لماذا تضٌيع مالك وتدفع لشخص لاتعرف عنه شيئا وغالبا ربما لن تلتقيه مرة أخرى ؟؟ .
▪️رددت عليه بإقتضاب ما معناه (ياخي هي قروشى وداير أضيعها) .. هو بدوره (طنطن) بكلام كثير فهمت منه جملة واحدة مفادها ( شعب غبي) … قالها بصورة مازحة (لأنني دائما ما أجادله وأقول له هذه ثقافة الشعب السوداني) .
▪️(طبعا اليوغندي يمكن ببساطة أن يركب المواصلات مع صديقه أو شقيقه وكل شخص يدفع تذكرته هو فقط) .
▪️ بعد فترة لا تتجاوز الستة أشهر وفي بدايات شهر رمضان شاءت الظروف والأقدار أن يكون (داؤدي) معي في مدينة (أمبرارا) غربي يوغندا .. والتي تبعد حوالي 600 كلم عن العاصمة كمبالا .
▪️كان معنا عمنا إسماعيل وهو رجل وقور (وهو في الحقيقة صانع الأجبان في المعمل الذي نمتلكه في إحدى القرى في تلك المنطقة ) وهو من النيل الأبيض من منطقة شبشة تحديدا .. وكانت عادته عندما نذهب الي أي مكان أن يلبس كامل الزي السوداني .. (الجلابية والعمة والشال و المركوب) وهذا اللباس عادة ماينال إعجاب وإستغراب اليوغنديين فيلقون عليه التحية ويداعبونه أحيانا .
▪️فجأة ونحن في الطريق إنتبهنا لصوت إمرأة تنادي بأعلى صوتها من مكان بعيد : (يازول يازول) .. إلتفتنا إليها فوجدناها إمرأة جنوبية في الأربعينات من عمرها ترتدي الثوب السوداني وهي تهرول نحونا .. فعدنا تجاهها ..
▪️ سلمت علينا بحرارة وبأنفاس لاهثة .. و قالت إنها عرفت أننا سودانيين من خلال ملابس العم إسماعيل .. وكعادة السودانيين تعارفنا بسرعة .. و عرفنا أنها تسكن في هذه المدينة منذ فترة طويلة .. وقالت لنا أنها سمعت بأن هناك سودانيون يصنعون الأجبان في تلك المنطقة .. إلا أنها لم توفق في ملاقاتنا بالرغم من أنها تأتي إلى السوق باستمرار .. وأقسمت علينا أن نفطر عندها في البيت في اليوم التالي وتبادلنا أرقام الهواتف ووعدناها بالحضور .
▪️إتصلت بنا أكثر من مرة لتأكيد الدعوة … و فعلا ذهبنا إلى منزلها في إحدى الأحياء الراقية ب (امبرارا) … ومدينة (أمبرارا) وهي في طابعها تشبه إلى حد كبير الريف الأوروبي من حيث الجو الربيعي والبيوت الجميلة المسقوفة بالإسبستوس الملون .. وكذلك الخضرة المنتشرة في كل مكان و النظافة البادية في الشوارع .
▪️عندما حضرنا وجدناها قد جهزت لنا إفطارا رمضانيا فيه مالذ وطاب وماتشتهيه الانفس .. ووجدناها كذلك قد صنعت لنا (العصيدة والمديدة) والكثير من الأسماك واللحوم ومختلف أنواع العصائر … وكذلك كانت قد جهزت لنا (فرشات) الصلاة و أباريق الوضوء .. فعرفنا أنها تدعى زينب وأن أهلها من قبيلة الباريا في جوبا .. وزوجها يسمى (توماس أو جيمس .. لا أذكر الإسم بالضبط لطول الزمن) .. الغريب في الأمر أنها مسيحية وزوجها مسلم يعمل طبيبا في منظمة دولية .. درس الطب في جامعة الخرطوم .. وكان وقتها يعمل في باكستان .. لهم ثلاث بنات في مراحل التعليم المختلفة إثنتان منهن مسلمات والثالثة مسيحية .
▪️طبعا صديقي (داؤدي) كان حاضرا لذاك الإفطار الشهي .. وكان مستغربا للأريحية التي تعاملت بها تلك المرأة معنا .. والكرم والحفاوة التي حفتنا بهما .
▪️بمجرد أن خرجنا من منزلها .. وكما توقعت إقترب مني صديقي اليوغندي و قال لي : يازول هل أنت متأكد أنكم لا تعرفون هذه المرأة التي تكبدت كل هذه المشاق المادية والبدنية لإعداد هذه الوجبة ؟؟ .
▪️ قلت له : لا .. بل لا نعرف حتى إسمها فقط عرفناه بالأمس .. وأنت كنت معنا عندما تعرفنا عليها !
▪️صمت صاحبي قليلا و هز رأسه ثم طنطن بما معناه : (ياخي إنتو شعب مدهش) .

🔹طبعا (داؤدي) وكثير من اليوغنديين وكثير من الشعوب في هذ العالم .. فهمهم أن الحرب التي كانت بين الشمال والحنوب كانت حربا بين الشمال العربي المسلم ضد الجنوب الزنجي المسيحي .. لكن بمرور الوقت وبكثير من الشواهد عرفوا أن الحرب سياسية بحتة وليس للدين دخل فيها .. فلا هي حرب أقليات ولا إختلاف في المعتقدات الدينية .. بدليل أنني باعتباري شمالي مسلم أتعاملوحتى اليوم مع الجنوبي المسيحي بصورة طبيعية .. بدون أن أعرف إسمه و(ما عندي معاه اي مشكلة) .. وكذلك هذه جنوبية مسيحية تدعونا نحن الشماليين المسلمين لإفطار رمضاني بكل الطقوس الدينية والإجتماعية في بيتها بدون حتى أن تعرف أسماءنا وجهاتنا .
🔹في الحالتين الدافع هو السودانوية ولا غير .
🔹إنها قلوب لا تعرف الصدأ ..

⭕ ويبقى السؤال : هل بدأنا نصدأ .. أم مازلنا بذات الألق والصفاء والإخاء ؟؟؟

Comments (0)
Add Comment