عثمان ميرغني.. يكتب: الدين (قيمة صفرية)

تقاس بالمسلك والعمل لا البطاقة والانتساب.. خطورة مثل هذا الجدل الذي دار في الوسائط أنه ينجب التطرف الديني
في الأثير السوداني ثارت ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي، هل يجوز الدعاء والترحم على الصحفية المغدور بها شيرين أبو عاقلة لكونها غير مسلمة؟ وهل يجوز وصفها بالشهيدة؟
وبلغ الحال ببعض المتداخلين أن سحب ”تَرَحُمَه“ بعد أن فُوجئ بمسيحيتها ولم يكن يعلم بديانتها لكون اسمها لا يحمل دلالات دينية.. هذا اللغط يتجاوز الحالة إلى عمق المعنى الحقيقي للإسلام.
في السياق العام للخطاب القرآني – وهو أعلى النصوص المقدسة – رسم صورة مجردة لـ“الإنسان“ من حيث كونه إنسانًا (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) ”الإسراء 70″، ووضع خطًا واضحًا للتمييز بين محتوى ”الوعي والإدراك“ من جهة، و“المسلك الخاص“ للإنسان من جهة أخرى.
وأفسح الإسلام فضاءً واسعًا بلا قيود للتقدير الذاتي لكل إنسان بخياراته الخاصة المعبرة عن تفكيره أو دينه، ويصبح المحك الذي يستوجب المحاسبة هو المسلك الذي ينبني على هذا التفكير (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) ”النجم 39″، لا الفكر أو الاعتقاد في حد ذاته.
الاعتقاد الديني ليس ميزانًا للعلاقات الإنسانية إلا بمقياس ما ينشأ عنه من فعل، في الخير والشر، ونشأ التطرف في التنظيمات – مثل القاعدة وداعش – التي تتكئ على منصة الدين بتأويل خاطئ للنصوص، فتُقسم البشر حسب اعتقادهم الديني، لا مسلكهم وعملهم، بل وأكثر من ذلك حسب موقفهم من التفسير الخاطئ للنصوص نفسها، وهنا يصبح الترياق ضد الطرف الديني بتصحيح المفاهيم التي أوجدت المسلك الخطأ.
مجمل روح الدين الإسلامي بُني على ارتقاء العلاقة مع الآخر، مهما كان هذا الآخر، فردًا أو مجموعًا (على مستوى الأسرة والقبائل والأمم)، بشرًا (ذكرًا وأنثى) أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا، بل حتى البيئة.
وأكثرت النصوص المقدسة من ذكر هذه العلاقة في مختلف صورها، بل وأفرطت في تعزيز مقامها مثل العلاقة مع الجار، كما قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سَيُوَرِّثُه)، و(دخلت امرأة النار في هِرّة حَبستها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)..
وحُرِّم قطع الشجر للمحافظة على البيئة، فقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (لا تقطعوا الشجر)، ومُنع صيد الحيوانات في أزمان محددة حتى لا يهددها الانقراض، ومُنع الإسراف في استخدام الماء (ولو كنت على نهرٍ جارٍ)، والنصوص كثيرة لا يتسع لها المقام.. وأجمل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الصورة الكلية فقال: (الدينُ المُعَامَلة) أي العلاقة مع الآخر.
في سياق هذه القيم الممتدة والعابرة لكل حدود الإنسانية، لم يجعل الله الدين ”بطاقة“ تمييز، بل المسلك والسعي الفردي في الخير والشر مطلقًا، في عالم الشهادة وليس الغيب، في قدرة الإنسان على مساعدة أو إيذاء أخيه الإنسان.
لم يمنح الله البشر سُلطة في ترتيب ما وراء الغيب، فلا يستقيم لأحد تحديد مَنْ يَدخُل الجنة أو النار، من يستحق رحمة الله ومن يستحق العقاب، من رضي الله عنه ومن سخط عليه، فالله اختص لنفسه (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) ”الأنبياء 47”.
بكل أسف، الفهم الخاطئ للإسلام يجعل الكثيرين – عمدًا أو غفلة- يسيئون إليه باحتكاره وتضييق الواسع، فيتحول الدين إلى ”أزمة“ في حد ذاته ونقطة افتراق لا جمع، ومصدر كراهية، لا حُب بين البشر.
يقول الله تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) ”النساء 123″، فالسلوك العملي في الحياة هو المحك لا بطاقة الدين، وعلى ذلك تأسست المواثيق الدولية والقُطرِية في عالم اليوم بالقوانين التي تُحمِل الإنسان المسؤولية عن عمله دون اعتداد بالخلفية الدينية التي ينطلق منها.
هذا الفهم لا يقلل من الاعتقاد الديني بل يزيد من عمقه؛ لأنه يربطه بالعمل والكسب الخاص للإنسان، فيصبح الدين ”قيمة صِفّرية“ لا تُقرأ إلا بمقدار ما يرتفع فوقها من قياس العمل، مثل الصفر في الأرقام، قيمته في حساب ما ينشأ من الحساب فوقه ”بالموجب“ أو تحته ”بالسالب“، فيصبح الرقم 7 مثلًا هو حساب الدرجات منسوبة للصفر، أو مثل قياس الارتفاعات في الجغرافيا، بحساب سطح البحر ”الصفر“ الذي منه يبدأ القياس، فيكون ألف متر فوق سطح البحر دلالة على القياس فوق القيمة المرجعية ”الصفرية“ وهي هنا ”سطح البحر“.
الدين يعاير السلوك بمقياس القِيم التي يدعو إليها، الصدق، والأمانة، والنزاهة، وحسن الخلق، ومساعدة الغير، وارتفاع المسلك الخاص بهذه القِيَم هو المحك.
الدعاء برحمة الله لا يرتبط ببطاقة الدين، فرحمة الله وسعت كل شيء، والخطورة الحقيقية ليست في اللغط الذي دار حول كون الصحفية شيرين أبو عاقلة شهيدة أم لا، ولا الجدال حول جواز الترحم عليها أم لا، بل في كون ذلك يعكس اختلالًا خطيرًا في فهم الدين، هو الاختلال ذاته الذي أنجب الجماعات والفكر المتطرف.

Comments (0)
Add Comment