📌 … هنالك طرائق يسلكها المستبدون بالرأي، الذين لا يرغبون في الالتفات إلى غير آرائهم.. لا يبذلون معها وقتاً ولا جهداً في تقييم النقد المتَّجه إليهم؛ فيكتفي أحدهم بإطلاق جملٍ وعباراتٍ بطريقةٍ “نَمطيَّة راتبة” يحاول بها إهدار قيمة النقد المتَّجِه إليه، وصرف أنظار الناس عنه، دون كَلَفة ولا عَناء…
✍️ د. محمد كرم الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد
إذا كنا في سائر الأوقات بحاجة إلى فتح ذرائع الصالح من العمل، وهجر سلوك التنازع والجدل؛ فإنَّ الحاجة في هذا الظرف الزماني الذي نمر به هي أكبر وأشدُّ من ذي قبل، وكنت قد ذكرت فيما نشرته من هذا المقال؛ إنَّه ليؤسفني أن يظهر مثلُ هذا الاعتلاج في هذا التوقيت “الحرج” الذي يضيق عن استيعاب مشكلات البلاد المتتابعة في الظهور، المعضلة في إيجاد المخارج والحلول.. فليس من الدين ولا المروءة ولا العقل؛ أن نُذَرِّع لما يزيد المشهد إرباكاً، بإثارة قضايا لا تترك مندوحة من الرد والتعقيب عليها إبراءاً للذمة ودفاعاً عن الدين والملَّة…
نشرتُ الجزءَ الأول من مقالي السابق في التعقيب على ما كتبه الصحفي عثمان ميرغني في مقالته التي كانت ديباجتها العليا وجملتها الأولى [ عثمان ميرغني يكتب: “الدين قيمة صفرية” ] بهذه الألفاظ دون زيادة أو نقص كما تطالعه على هذا الرابط
وقد نُشر مقالُ الصحفي بذات الديباجة على نطاق واسع من خلال مجموعات “الفيس بوك” و”الواتساب” وبعض المواقع ووسائل التواصل الأخرى على نحو لا يغيب عن كاتبه الذي نفى أن تكون هذه الديباجة عنواناً لمقاله!!…
مهما يكن من أمرٍ؛ فإني بعد قراءتي للمقال المذكور بحروفه وكلماته وجمله؛ مرَّةً بعد أخرى، رأيت مناقشته في القضايا التي أثارها، والتصورات التي تقدم بها خلال مقاله “وليس من خلال عنوان المقال” كما هو معلوم بداهة، وقد ذكرت ذلك بين يدي ما نشرته من التعقيب ..
بعد أن تم نشر الجزء الأوَّل من مقال التعقيب تحت عنوان [ في بريد عثمان ميرغني: “الهوية الصفرية” لا تقيم للدين وزناً ]، وجرى تداوله على ذات الوسائل التي نُشِر بها مقاله؛ أوصل بعض المهتمين من القُرَّاء التعقيب إلى “بريد عثمان ميرغني” كما أُرِيد له، وهذا سلوكٌ معتاد في التعامل مع مثل هذه الحوارات والتعقبات، فكانت ردود الصحفي عثمان ميرغني التي اطلعتُ عليها من خلال تعليقات بعض القرَّاء، وما أرسله إليَّ بعض الإخوة منكراً تصرُّف الصحفي الذي يراه نوعاً من “الانصرافية” و”الهروب الآمن من تبعات الكلام المكتوب” و”محاولة التقليل من قيمة التعقيب على مقاله”….، ونحو ذلك من الآراء، وأذكر هنا جُملاً مما وردني واطلعت عليه من تعليقاته وردوده على التعقيب، من ذلك:
[ الدكتور لم يقرأ المقال من الأساس، فقط قرأ التغريدة في الفيسبوك التي بها ترويج ورابط للمقال ]
[ العنوان الذي اشار إليه باعتباره عنوان المقال هو مجرد (ترويج) للمقال وليس عنوان المقال.. ]
[ أنا لم أكتب مقالاً بعنوان الدين قيمة صفرية، ومعنى ذلك أن الكاتب لم يقرأ المقال ]
[ أعتقد هو لم يفهم وجهة نظري ]
[ هو ناقش بافتراضات ليست موجودة في المقال ]
هذه ردود الصحفي “التي اطلعت عليها” على الجزء الأوَّل من المقال الذي نشرته، فاستلزم الحال إضافة كلمات لم نكن في حاجة إلى التطويل بكتابتها لولا الإلباس الذي حملته هذه التعليقات، سائلاً الله تعالى أن يرزقنا حسن الفهم وسلامة القصد، لنسلم من الفساد في التصورات، والجور في الأحكام، فلا شيء أضرَّ بالإنسان من جهلٍ يُرديه، وظلمٍ يُشقيه، ( وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) ..
👈 عقول الرِّجال في أطراف أقلامِها
الذي أقوله للكاتب عثمان ميرغني؛ نحن لا “نتجاذب أطراف حديث” في غرفة مغلقة، ولا نتحاور في عالم “منعزل” عن الآخرين، ولم نخصِّص مقالاتنا للسُوقة وضعاف العقول الذين يساقون بسماع قرع الطبول، ورؤية سُحب الدُّخان المتصاعدة، خلف كهنة السياسة في معابد “الميكافيلية”… ما كتبناه في المقالين تم بثُّه في فضاء مفتوح، تشاركنا الاطلاعَ عليه أفهامٌ متباينة، وعقولٌ متفاوتة، واتجاهات في التفكير أطرافها مترامية، ومقامات في العلم والمعرفة متفاضلة “منهم الباحث المحقق، والناقد المدقِّق”؛ وهؤلاء لن نفرض عليهم رؤية أحادية بلادليل أو برهان، ولن نحجر عليهم الاطلاع على رؤية أخرى مباينة لما تقدمنا به.. بل نكون بكتاباتنا قد وضعنا أنفسنا بين أيديهم للنقد والتقييم؛ ليس في حدود الحروف المرسومة فحسب، بل يتعداها إلى تقييم أمورٍ لم تكن لتظهر لهم لولا نطق اللسان، وخط البنان؛ فذلكم الكاشف عن مكنون الإنسان علماً وعقلاً، وقديماً قالوا: [ من تكلم فقد عرض عقله للناس]، وقيل كذلك: [ عقول الرِّجال في أطراف أقلامِها ] ومن أقوال الجاحظ : [ لا يَزَال المرءُ في فُسْحةٍ من عقلِه ما لم يَضَعْ كتابًا يَعْرِضُ على النَّاسِ مَكْنُونَ جهلِه، ويُتصفَّحُ به إن أخطَأَ مَبْلغَ عَقلِه ]..
فالذي أقوله لعثمان ميرغني هو؛ عندما نضع مقالاتنا المكتوبة أمام القارئ المستبصر فقد رُفعت الأقلام وجفت الصحف.. أدينا الذي علينا وبقي الذي لهم، لن يجدي عندها سلوك التعمية والتعتيم تجاه الحقائق المرئية، ولن يقبل منا عند اختلاف الرؤي أن نكون “الخصم والحكم” لفرض رؤية بلا منازع… ومن هنا لا أرى قيمةً لقولك [ أعتقد هو لم يفهم وجهة نظري ]، وقولك: [ هو ناقش بافتراضات ليست موجودة في المقال ].. فهذا وذاك نترك الحكم فيه لمن يطلع على المقالين من الباحثين المختصين، والقرَّاء المستبصرين، الذين يفهمون “وجهات النظر” من خلال المقالين كليهما، ويدركون مدى موضوعية الحوار و”النقاش” الوارد في مقال التعقيب بلا مزايدة..
هنالك طرائق يسلكها المستبدون بالرأي، الذين لا يرغبون في الالتفات إلى غير آرائهم.. لا يبذلون معها وقتاً ولا جهداً في تقييم النقد المتَّجه إليهم؛ فيكتفي أحدهم بإطلاق جملٍ وعباراتٍ بطريقةٍ “نَمطيَّة راتبة” يحاول بها إهدار قيمة النقد المتَّجِه إليه، وصرف أنظار الناس عنه، دون كَلَفة ولا عَناء… فما أيسر أن تدفع النقد المتجه إلى كلامك بالقول { لم يقرأ الكلام } … { لم يفهم الكلام }، ولكن قد يكون دون إقامة البرهان على ادعائك هذا خرط القتاد…
👈 الحُكمُ الجُزَاف ومواردُ الإسفاف
من الأحكام التي أطلقها الصحفي عثمان ميرغني جزافاً، قوله: [ الدكتور لم يقرأ المقال من الأساس، فقط قرأ التغريدة في الفيسبوك التي بها ترويجٌ ورابط للمقال ]، ولا أدري كيف استطاع الجَزْمَ بهذا الحكم دونَ بَيِّنَةٍ كافية للحكم على شخصٍ أنه يردُّ على شيءٍ لم يقرأه ؟! والحال أنَّ عثمان ميرغني يتولى مهمة رئاسة التحرير التي لا يناسبها “عدم المبالاة” والعجلة في تحرير المحتوى قبل نشره، فكيف أقدم على إطلاق أحكام مخالفة للواقع بلارويَّة!!..
ولي تعقيب على هذا الادعاء من وجوه، أذكر ثلاثة منها:
أولاً: من الناحية الواقعية.
فإنَّ مقال الصحفي قد وقفت عليه من خلال رسائل “الواتساب” فقرأته كاملاً قراءة متأنية، ثم ذهبت للتحقق من صحته، وتاريخ نشره، فاطلعت عليه في موقع “أثير نيوز” [المتقدِّم]، وبعض المواقع والصفحات الأخرى، ثمَّ لما بدأت في التعقيب عليه أعدت قراءته لأجل حصر القضايا التي تناولها الكاتب بالتأسيس أو المناقشة والتعقيب، وكلما أردت مناقشة قضيَّة من بينها أعدت النظر فيه مرَّةً أخرى لقراءة سياق الكلام وسباقه، وهذه الطريقة التي سلكتها أتت على منهجٌ متَّبع في كتابة مثل هذه الموضوعات لا يغيب عن المختصين… وبعد ذلك كله اكتفى الكاتب عثمان ميرغني بالقول: [ الدكتور لم يقرأ المقال من الأساس ] !! ..
ثانياً: من الناحية المنهجية.
فإنَّ منهج مقالي في التعقيب على ما كتبه عثمان ميرغني هو منهج الكتابة النقدية التي لا تُبنى على “التكهُّنات” ولا “التخرُّصات”، ولا ئؤسس على بنات أفكار الكاتب استقلالاً، إنَّما تتجه إلى “تحديد مدى صحة ادعاء معين”، وأوَّل ما استُعملت كلمةُ النقد كانت بمعنى فَرز الدَّراهم والدنانير؛ لبيان الصحيح منها والزَّائف، ويترتب على ذلك:
1 – أنَّه لا بدَّ من وجود “المادة” و”المضمون” الذي ينظر فيه الناقد لبيان صحيحه من سقيمه، خطئه من صوابه… وبالنظر إلى ما نحن فيه لا بدَّ من وجود المقال المُراد نقده كاملاً، حتى ينظر فيه الناقد دون اجتزاء أو انتقاء…
2 – لا بدَّ للناقد أن يبذل جهداً يتَّسم بالمعرفة الكافية مع “الدِّقة المتناهية” كما هو حال الصيارفة في نقد العملات وبيان الصحيح منها والزائف… وهذا القدر يعرفه الباحثون المختصون، الذين يسلكون في كتاباتهم المنهج التحليلي بفروعه “النقد – التفسير – الاستنباط”، فليس هنالك باحثٌ يطلق الأحكام جزافاً فيما لم يطلع عليه، وما لم يبذل جهداً في النظر فيه…
ثالثاً: من ناحية مضمون التعقيب.
فقد كان مضمون التعقيب مفصحاً عن مدى اطلاعي على المقال وقراءتي له، لما تضمَّنه من توصيف وتقسيم للمسائل والقضايا الواردة فيه، ولتناولي موضوعه الأساس بالنقد والمناقشة.
👈 أنتيه عن موضوع المقال بالتنازع على عنوانه..
في منهجية البحث العلمي، وكتابة الموضوعات الأدبية، والمقالات المختصرة، يُعَدُّ العنوان الجَيِّد بريداً للقارئ في معرفة الموضوع، وحدوده، والمشكلة التي يعالجها الكاتب، بعبارات واضحة مختصرة، وهو بذلك يمثِّل “البوابة الأولى” في الدخول لقراءة الموضوع..
مع هذه الأهمية؛ فإنَّه لم يُعرَف في مجال القراءة والاطلاع المعرفي أن العنوان يُستغنى به عن قراءة الموضوع والمحتوى، ناهيك عن إنسان يزيد على هذا القدر بالرغبة في نقد الموضوع والتعقيب عليه، فإنَّه يلزمه من القراءة والتدقيق فيه ما لا يلزم غيره..
في بعض الكتابات الأدبية والمقالات المختصرة قد يجنح كاتبها إلى “عنصر الإثارة” في وضع العنوان، وذلك بغرض تحريك هِمَم القرَّاء وإثارة “فضولهم” للاطلاع على موضوع المقال ونحو ذلك.. هنا قد تجد العنوان أحيانا غير مطابقٍ لموضوعه مطابقة تامة، لأنَّ الاهتمام في اختيار العنوان انصبَّ على الإثارة واجتذاب القاري..، ولعلَّ هذا النهج هو الذي سلكه عثمان ميرغني -أو غيره- في وضع ديباجة موضوعه [ الدين قيمة صفرية ] التي يَعدُّها “ترويجاً للمقال” وليست عنواناً له، مع أن المقال في أكثر المواقع ووسائل التواصل لم يُصدَّر بغير [ عثمان ميرغني يكتب: الدين قيمة صفرية ]، وهي ذات “الصورة” والطريقة التي يعنون بها لكثير من مقالاته !! .. فمهما يكن من أمر؛ لن نتيه عن موضوع المقال بالتنازع على عنوانه، لأنَّ الموضوع والمضمون هو المَعنِي بالمناقشة والتعقيب، وليس العنوان كما هو معلوم بداهة..
،يتبع الجزء الثاني إن شاء الله