بعد أكثر من عقد ونصف العقد من الاقتتال في إقليم دارفور بالسودان، تستمر معاناة سكان معسكرات النزوح واللجوء التي خلفتها أعوام الحرب، التي هجر خلالها ما يقدر بنحو ثلاثة ملايين و200 ألف نازح قراهم ومنازلهم ومزارعهم، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ المدنيين الأبرياء من ضحايا الصراع، هربوا خوفاً من ويلات الحرب بحثاً عن الأمن والحياة، فإذا بالموت يحاصرهم ويهددهم من جديد، لكن هذه المرة بالجوع وسوء التغذية.
مجاعة على الأبواب
تفاقمت خلال الأيام الأخيرة الأوضاع الإنسانية التي يعيشها النازحون واللاجئون في المعسكرات، التي باتت بحسب منسقية النازحين واللاجئين بدارفور على وشك الدخول في مجاعة حقيقية، فبات الجوع الشديد يحاصرهم بعد أن تدهورت الأحوال المعيشية بصورة تضعهم في مواجهة الموت البطيء تضوراً، بخاصة كبار السن والعجزة إلى جانب الفئات الضعيفة من الأطفال والنساء.
وحذر آدم رجال، المتحدث باسم المنسقية في تصريح لـ”اندبندنت عربية” من أن الجوع يداهم سكان المعسكرات الذين يعيشون أوضاعاً في غاية الصعوبة والبؤس، بعدما فاقم شح المواد الغذائية الأساسية وارتفاع أسعارها الجنوني معاناتهم.
وكشف رجال عن أن حالات سوء التغذية بلغت في معسكر واحد فقط، هو معسكر “كلمة” نحو 1175 حالة، بينما وصل عدد حالات سوء التغذية الحاد وسطهم إلى أكثر من 67 حالة محجوزة الآن في مراكز بعض منظمات التغذية، معظمهم من الفئات الضعيفة كالأطفال والمرضعات والحوامل.
ولفت إلى أن معظم الأسر داخل معسكرات النزوح باتت تكتفي بوجبة واحدة لأفرادها في اليوم، بعدما قلصت المنظمات الداعمة الحصص التي كانت تقدمها من السلع والمواد الغذائية، وأحلّت مكانها الدعم المادي النقدي، بحسب عدد أفراد الأسرة، بواقع 3000 جنيه للفرد نحو (5 دولارات أميركية)، أي أن الأسرة المتوسطة التي تضم 5 أشخاص مثلاً يكون دعمها المالي 15000 جنيه (26 دولاراً شهرياً)، وهو مبلغ زهيد جداً، لا يسمن ولا يغني من جوع قد تستهلكه الأسرة في يوم أو يومين في ظل الارتفاع الخرافي لأسعار كل المواد الغذائية.
الدعم النقدي
أشار رجال إلى أن المساعدات الموجودة حالياً، هي التي تقدم بواسطة برنامج الأغذية العالمي، وتحولت بالفعل من الدعم العيني إلى الدعم النقدي بالفئات التي سبق ذكرها، وقد ترتفع في بعض المعسكرات إلى 4000 جنيه سوداني بالنسبة إلى الأفراد من الفئات الأضعف مثل النساء والأطفال، لكنه يبقى أيضاً مبلغاً ضئيلاً، مقارنة بالظروف المعيشية وأسعار السلع.
وأوضح أن التقديرات تشير إلى أن حاجة الفرد بالمعسكرات في حده الأدنى نحو 20000 جنيه في الشهر، ما يعادل (35 دولاراً أميركياً)، بالتالي فإن الاحتياج الفعلي للأسرة المتوسطة من 5 أفراد هو 100000 جنيه في الشهر، نحو (175 دولاراً أميركياً)، وبذلك يتضح حجم الفجوة الكبيرة التي تشكلت منها معاناة النازحين واللاجئين بالمعسكرات، والتي تدفع بشدة نحو مجاعة وسط سكانها.
وقال آدم رجال إن الوضع الحرج الراهن الذي يعيشه سكان المعسكرات، له علاقة وثيقة بالوضع الداخلي في السودان، خصوصاً بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول)، وتوقف الدعم الخارجي، الذي شمل توقف برنامج ثمرات للدعم المادي المباشر للأسر بواقع 5 دولارات شهرياً للفرد لمدة 12 شهراً بالمشاركة بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمات ودول مانحة أخرى، ما تسبب في حرمان النازحين واللاجئين من الاستفادة من ذلك البرنامج.
دعم انتقائي
المتحدث باسم المنسقية كشف عن أن منظمات عدة أصبحت تميل إلى تقديم دعم انتقائي للفئات الأكثر احتياجاً، خصوصاً مع تجميد الدعم الدولي للسودان، مشيراً إلى أن تلك المنظمات كانت أكبر بكثير خلال الفترة من 2003 إلى 2009، لكن نظام المخلوع عمر البشير طردها بحجة تسريب معلومات مغلوطة للمحكمة الجنائية الدولية.
يشرح رجال خلفيات الوضع الراهن في المعسكرات، قائلاً “تعود جذور الضائقة الراهنة التي يعيشها النازحون واللاجئون إلى تاريخ طرد المنظمات، فإنه ومنذ عام 2016 وحتى نهاية 2017، بدأت المنظمات بتصنيف كروت (بطاقات) صرف الحاجات إلى ثلاثة مستويات لتقديم العون (أ، ب، ج)، فضلاً عن أن سعي حكومة الرئيس المخلوع البشير الحثيث لتفريغ المعسكرات لأغراض ومرامٍ سياسية، أخرج 80 في المئة من النازحين من قوائم العون الغذائي، إلى جانب تقليص الحصص الغذائية، واستمرت هذه الحال حتى بعد إسقاط البشير، لكن بعد قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) وحتى الآن، لم يتم تنفيذ أي شيء جديد بشأن تحسين أوضاع النازحين واللاجئين”.
الوضع الحرج الراهن الذي تعيشه المعسكرات له علاقة وثيقة بالوضع الداخلي (حسن حامد)
استغاثة عاجلة
أطلق المنسق نداءً عاجلاً عبر “اندبندنت عربية” إلى جميع المنظمات والبعثة الأممية لدعم التحول الديمقراطي في السودان (يونتامس)، بضرورة التدخل مراعاة للأوضاع الحرجة التي يعيشها النازحون في المعسكرات، بتقديم خدمات إنسانية طارئة لهم، خصوصاً أن هناك عمليات نزوح جديدة ترتبت على أحداث محلية كرينك في غرب دارفور، وكذلك أحداث منطقة جبل مون.
كما ناشد المنظمات العاملة بأهمية رفع سقف الدعم النقدي إلى 20000 بدلاً من 3000 جنيه للفرد في الشهر، تماشياً مع الأوضاع الاقتصادية ولمواكبة أسعار السلع الغذائية الأساسية المرتفعة.
في السياق ذاته، وحول جهود تهيئة البيئة اللازمة لعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، كأحد الحلول الجذرية لمشكلة المعسكرات، قال تاج الدين إبراهيم، رئيس مفوضية العودة الطوعية وإعادة التوطين إن المفوضية التي أقرها اتفاق سلام الدوحة، تعمل على ثلاثة محاور، العودة الطوعية وردّ الممتلكات المفقودة، ومحور التعويضات وجبر الضرر والتعويض المجزي، وفق تقييم لجان حصر الممتلكات ومعايير دليل، ومفاهيم تعريف الضحية وجبر الضرر والمرجعيات القانونية للتعويض.
متى العودة الطوعية؟
وكشف إبراهيم عن أن هناك جملة من الصعوبات والتحديات التي تجابه العودة الطوعية للنازحين، أبرزها شح الإمكانات المادية لقيام المشاريع المخطط لها، نتيجة عدم وفاء الشركاء الدوليين بالتزاماتهم وتعهداتهم، إلى جانب توجهات ورغبات جديدة لكثير من النازحين في ما يخص بقاءهم في المعسكرات، وفئات أخرى من تجار الحرب المستفيدين من وجود المعسكرات والنازحين.
وأشار رئيس المفوضية إلى أن وجود الحركات المسلحة غير الموقعة على السلام يشكل عقبة حقيقية أمام عودة النازحين، وهي تعمل جاهدة على الاستغلال السياسي للمعسكرات، واعتبار استمرار وجودها دليل إدانة للدولة، وشاهداً على بقاء مظاهر الحرب وغياب السلام والاستقرار، كما تستغلها أيضاً في المناسبات المحلية كورقة ضغط على الحكومة، إضافة إلى وجود بعض العناصر المسلحة المتفلتة التي تهدد بشكل كبير استقرار العائدين في مناطق العودة.
شدد رئيس العودة الطوعية على أهمية توافر إرادة سياسية قوية لدى الدولة تجاه بسط الأمن في مناطق العودة، مع أهمية بلورة فهم مشترك حول هذه القضية، بغرض الوصول إلى حلول مستدامة لجميع قضايا ومتطلبات العودة الطوعية للنازحين والتأمين على حقوقهم، من خلال إدارة حوار مجتمعي يشمل كل الفئات، من ضمنها النازحون أنفسهم والمجتمع المدني والإدارات الأهلية.
وعلى الرغم من وضع كل اتفاقات السلام، منذ بدء الصراع حتى اليوم، مسألة العودة الطوعية للنازحين واللاجئين على رأس أولوياتها، من خلال مفوضيات متخصصة مهمتها الأساسية متابعة قضية العودة الطوعية، لكن يبدو أنها كلها عجزت عن حسم ترتيب أمر عودتهم إلى قراهم ومناطقهم التي هجروها بسبب الحرب.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توقع الأسوأ
على صعيد متصل، توقع تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” التابع للأمم المتحدة، وصول عدد الأشخاص الذين سيواجهون الجوع في السودان بحلول سبتمبر (أيلول) هذا العام، إلى 18 مليون شخص في أنحاء البلاد، بحسب تقييم مشترك لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي.
وأشار مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في تقريره إلى استمرار تدهور الاقتصاد والصراع والنزوح، لا سيما في ولايات دارفور وكردفان، إضافة إلى أثر انتشار فترات الجفاف وفشل المحاصيل في 115 محلية بـ14 ولاية في جميع أنحاء البلاد في 5.6 مليون شخص، بينما أثّر ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية في المحصول الذي انخفض بنحو 35 في المئة مقارنة بعام 2021.
ولفت التقرير إلى أن قطاع الأمن الغذائي يقدر عدد الأشخاص المحتاجين للدعم عام 2022 بـ15.7 مليون شخص، مؤكداً أن النزاعات الاجتماعية وتداعياتها والأزمة الاقتصادية وضعف المحاصيل تؤثر بشكل كبير في الأشخاص.
تزايد النزوح
وخلّف نزاع إقليم دارفور المسلح، الذي اندلع في 2003 بين الحركات المسلحة وحكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، بحسب آدم رجال منسق المعسكرات، وبعض التقارير والإحصاءات تعود إلى عام 2018، نحو 175 معسكراً في إقليم دارفور، منها 155 للنازحين و20 للاجئين، أبرزها 20 معسكراً في ولاية وسط دارفور، تضم معسكرات السلام والحميدية والحصاحيصا وأبوذر ونيرتتي (شمال وجنوب)، تشمل نحو 277 ألفاً و369 نازحاً، منهم 94535 امرأة و44153 رجلاً، بينما يمثل الأطفال نحو 138 ألفاً و681 طفلاً.
كما توجد 6 معسكرات في شمال دارفور، أشهرها معسكرات أوشوك والسلام وزمزم وكساب، تضم 248 ألفاً و542 نازحاً، منهم 116835 امرأة و54671 من الأطفال، و77031 رجلاً.
وتضم ولاية شرق دارفور 6 معسكرات، أكبرها النيم والفردوس وشعيرية وياسين، وفيها 92 ألفاً و435 نازحاً، أما ولاية غرب دارفور فتضم العدد الأكبر بحوالى 37 معسكراً، أبرزها كريدنق وأردمتا ومستري وهبيلا والقردود وفوربرنقا وكلبس وسربا.