تصاعدت مجدداً حدة الخلاف حول أزمة سد النهضة الإثيوبي مع استئناف أديس أبابا عملية تعلية السد من أجل البدء بتخزين كميات أكبر من المياه خلال موسم الفيضان المرتقب، وذلك في خطوة جديدة أعقبت شروعها هذا العام في توليد الكهرباء جزئياً من المشروع المائي الضخم على النيل الأزرق، وسط احتجاج كل من مصر والسودان ورفضهما مواصلة الخطوات الأحادية في ظل انسداد عملية التفاوض بين البلدان الثلاث من أجل الوصول إلى اتفاق حول ملء السد وتشغيله بعد مرور أكثر من عشر سنوات على انطلاق المشروع.
وكشفت مصادر دبلوماسية أميركية لـ”اندبندنت عربية” عن انخراط دبلوماسيين أميركيين في عواصم البلدان الثلاث وعدد من كبار المسؤولين الأميركيين، في نقاشات مبدئية مع مصر والسودان وإثيوبيا من أجل العمل على تشجيع هذه الأطراف مجدداً على استئناف المفاوضات والوصول إلى توافق حول البنود والملفات الخلافية المرتبطة بالأزمة.
وأوضحت المصادر أن واشنطن قلقة من استمرار حال الانسداد الراهن للملف، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تصعيد في المنطقة نتيجة الأضرار المحتملة التي يمكن أن يتعرض لها الأمن المائي في السودان ومصر، وذلك وسط دعوات من الجانب المصري إلى نظيره الأميركي لاستخدام نفوذه لدى إثيوبيا من أجل تشجيعها على المضي قدماً في التوصل إلى الاتفاق في أسرع وقت ممكن لنزع فتيل الأزمة، مؤكداً إمكانية حدوث ذلك استناداً إلى ما جرى التوصل إليه بالفعل خلال السنوات الماضية من مسودات لاتفاقية، وأبرزها “اتفاقية واشنطن” التي توصلت إليها البلدان الثلاث برعاية أميركية في يناير (كانون الثاني) 2020، ورفضت إثيوبيا توقيعها.
ودعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مؤتمر صحافي الاثنين “30 مايو (أيار)”، مع نظيره البولندي أندريه دودا إلى “التوصل إلى اتفاق منصف وملزم قانوناً بما يكفل عدم الإضرار بالمصالح المائية المصرية وحقوق الأجيال الحالية والقادمة في مياه نهر النيل، وبما يضمن تحقيق الأهداف التنموية للشعب الإثيوبي”، وذلك بعد أيام من إعلان إثيوبيا موعد الملء الثالث للسد في شهري أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) المقبلين، الأمر الذي استنكرته وزارة الخارجية السودانية في بيان السبت الماضي، مؤكدة أنها لن تقبل المضي في عملية ملء وتشغيل السد “إلا بعد التوصل إلى اتفاق قانوني منصف وملزم”.
سباق دبلوماسي في واشنطن
ويبدو أن إثيوبيا أدركت مبكراً الدور المحوري الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة في هذه الأزمة مجدداً خلال الفترة المقبلة، حيث عينت في مطلع شهر مايو، كبير المفاوضين الإثيوبيين في ملف السد، وزير الري سيليشي بيكيلي، مبعوثاً خاصاً وسفيراً مفوضاً لدى الولايات المتحدة، وهو ما عده المراقبون دليلاً على تمسك الجانب الإثيوبي بمواقفه والرغبة في ترويجها في دوائر صنع القرار في واشنطن، لا سيما أن قضية نهر النيل والسد ستظل القضية الرئيسة لإثيوبيا في السنوات المقبلة.
وبمجرد وصوله إلى الولايات المتحدة قبل أسبوعين، دشن بيكيلي نشاطه فور تقديم أوراق اعتماده إلى مدير المراسم بوزارة الخارجية الأميركية، حيث أقام حفلاً لرموز الجالية الإثيوبية في الولايات المتحدة دعا خلاله إلى دعم مواقف أديس أبابا والتنمية وتحسين الأوضاع في البلاد، ونفذت الجالية الإثيوبية تظاهرات رمزية عدة خلال السنوات الماضية لدعم مشروع السد ومساندته من خلال التحويلات المالية وحملات التمويل. كما أجرى بيكيلي لقاءات واتصالات مع نظرائه الأفارقة خلال الاحتفال بيوم أفريقيا، بحسب ما نشر الحساب الرسمي للسفارة الإثيوبية في واشنطن.
في المقابل، قام السفير المصري لدى واشنطن معتز زهران بتحركات لافتة في الأشهر الماضية في دوائر صنع القرار الأميركي، بوزارتي الخارجية والخزانة والكونغرس ووكالات الأمن ومراكز الأبحاث والجامعات ووسائل الإعلام الأميركية، من أجل تأكيد موقف مصر والسودان من “التهديد الإثيوبي كتحدٍّ وجودي لحياة 160 مليون مواطن في البلدين”، ودعوة واشنطن إلى الضغط على أديس أبابا من أجل الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم يراعي مصالح البلدان الثلاث. وأكد السفير زهران المواقف التي أدلى بها أخيراً من خلال مجموعة من مقالات الرأي والحوارات الصحافية التي أجراها خلال الأسابيع الماضية، التي شهدت ظهوره بشكل لافت لمناسبة الاحتفال بمرور مئة عام على انطلاق العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة.
وشدد الدبلوماسي المصري المخضرم في جلسة حوارية مع صحيفة “المونيتور” الأميركية قبل أيام، على أنه يجب على الولايات المتحدة استخدام نفوذها على إثيوبيا في محادثات سد النهضة. وبشأن وضع المفاوضات حالياً، قال زهران إنه إذا ظلت المحادثات متوقفة، “يمكنك أن تتوقع أي شيء. سيكون لديك وضع يتعين على مصر بموجبه النظر في جميع خياراتها”. وأضاف، “المؤكد هو أن مصر ستتمسك باستمرار بخياراتها الدبلوماسية”. وأوضح أن أي تهديد لمياه النيل التي تعتمد عليها مصر في أكثر من 90 في المئة من احتياجاتها، “وجودي”. وناشد واشنطن المساعدة في كسر الجمود، بحسب “المونيتور”.
كما اعتبر السفير المصري أن التعنت وعرقلة العملية الدبلوماسية من قبل أديس أبابا هما السبب في هذا الجمود، مضيفاً أن “الولايات المتحدة لديها نفوذ. والمطلوب هو ممارسة مزيد من الضغط على إثيوبيا، فلم نشهد هذا النوع من الضغط على إثيوبيا خلال العام الماضي. والمطلوب مواصلة الجهد الذي قادته وبذلته الإدارة السابقة”.
وقال زهران “لقد رأينا إدارة وضعت على الطاولة وثيقة اتفاقية واشنطن في يناير 2020. نحتاج إلى رؤية الولايات المتحدة الاستباقية القادرة على رعاية العملية نحو اتفاق يتم الاتفاق عليه بشكل متبادل وملزم قانوناً، وله آلية لحل النزاع مضمنة فيه”.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موقف أميركي ملتبس
وبخلاف ما أخبرتنا به المصادر الدبلوماسية الأميركية حول اهتمام واشنطن بعدم حدوث تصعيد للتوترات بين البلدان الثلاث على خلفية أزمة سد النهضة والمناوشات الحدودية بين السودان وإثيوبيا، ومن ثم مراقبة الأوضاع من كثب وبقاء ملف السد على قائمة اهتمامات واشنطن، ضمن ما يتعلق باستقرار منطقة القرن الأفريقي المضطرب، توضح تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين أن واشنطن ألقت الكرة في ملعب البلدان الثلاث، في ظل حالة عدم اليقين حول نتيجة تحركاتها وخشية تكرار الفشل الذي منيت به مفاوضات واشنطن التي جاءت بناءً على طلب مصري وموافقة البلدان الثلاث بعد تحرك الرئيس السابق دونالد ترمب شخصياً لدفع المفاوضات.
وقال الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأميركية (سينتكوم) خلال زيارة إلى القاهرة في فبراير (شباط) الماضي، “نحن على استعداد للمساعدة في المستقبل لعودة الأطراف معاً إلى مائدة التفاوض، ونحن على استعداد لفعل أي شيء بوسعنا لمساعدة مصر على حل هذه المشكلة دبلوماسياً، حيث أعتقد أن نية مصر هي القيام بذلك”، وأشاد بموقف القيادة المصرية “الساعي إلى تجنب العمل العسكري، وإلى إيجاد طريقة للتفاوض على تسوية يمكن لجميع الأطراف التعايش معها”، بحسب ما ذكر في مقابلة مع صحيفة محلية. وجاءت تلك التصريحات بعيد دعوة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، من القاهرة إلى حل أزمة سد النهضة دبلوماسياً، وذلك في ختام جولة الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة، الأولى في عهد الرئيس جو بايدن بعد توقف دام ست سنوات، وهو ما جدد بلينكن تأكيده خلال زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى العاصمة الأميركية الشهر الماضي.
لكن قبل يومين، قال سامويل وربيرغ، المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية، إن “الحل يجب أن يصدر من عواصم الأطراف الثلاثة، ولا يمكن لأي طرف خارجي أن يفرض الحل على أي دولة”. وأضاف الدبلوماسي الأميركي، الذي عمل سكرتيراً صحافياً بسفارة الولايات المتحدة بالقاهرة قبل توليه منصبه الحالي، أن “الولايات المتحدة مستعدة لتقديم أي دعم تقني أو فني إذا طلب منها ذلك من كل الأطراف المعنية بتلك الأزمة، ولكن باعتبار أن هذه القضية تخص الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا)، فنحن نرى أن الحل يجب أن يصدر من عواصم الأطراف الثلاثة”، بحسب ما صرح لصحيفة مصرية.
وطلبنا تعليقاً من الجانب المصري على الموقف الراهن من استئناف المفاوضات تحت رعاية أميركية، لكن ثلاثة من المتحدثين باسم الحكومة المصرية في وزارات مختلفة (الخارجية والري ومتحدث الحكومة) لم يجيبوا على طلب التعليق.
وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري قال الأسبوع الماضي، إن مصر تؤكد رغبتها في تحقيق اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا في ما يخص سد النهضة، وفق قواعد القانون الدولي ومن خلال المفاوضات والحلول السلمية التي تحقق مصالح كل الأطراف، وذلك عقب مباحثات مع ناليدي باندور، وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب أفريقيا التي سبق أن توسطت للمرة الأولى في الأزمة تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، وتوقفت المفاوضات بعد وصولها إلى طريق مسدود العام الماضي.
من ناحية ثانية، رأى الباحث السياسي السوداني وائل نصر الدين أن “الجانب الأميركي لديه مشكلات كبيرة مع حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ليس فقط في ما يتعلق بالسد، لكن قبل كل شيء بشأن علاقاته المتنامية مع روسيا والصين والأوضاع الحقوقية المتدهورة في البلاد وبخاصة منذ حربه على إقليم التيغراي”، مضيفاً أن “موقف الديمقراطيين ليس ضد السد الإثيوبي بخلاف ما أعلنه الجمهوريون حول خطر المشروع، بل ومساندة ترمب موقف مصر والسودان خلال المكالمة الشهيرة مع رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نتنياهو، الذي أعطى خلاله ضوءاً أخضر لأي عمل عسكري ضد المشروع. وقدمت إدارة ترمب اتفاق واشنطن لحل الأزمة وتنصلت منه إثيوبيا، فالديمقراطيون واقعون تحت تأثير لوبي ذوي الأصول الأفريقية داخل الحزب الذي يدعم موقف إثيوبيا وأي قضايا تتعلق بأفريقيا جنوب الصحراء، بينما يدعم الجمهوريون استمرار تدفق المياه إلى مصر والحفاظ على أمنها كركيزة أساسية لاستقرار المنطقة والحفاظ على مصالح واشنطن، والعامل المؤثر سيكون انتخابات الكونغرس المقبلة وتوازنات الداخل الأميركي، ففي حال سيطر الجمهوريون على مجلس الشيوخ سيكون ذلك في صالح موقف مصر والسودان”.