يبدو أن العاصمة السودانية الخرطوم بدأت بالفعل في دفع الثمن غالياً نتيجة للتوسع العمراني والسكني العشوائي طوال السنوات الماضية من دون أن تتنبه لمخاطره المستقبلية. فشبكة الصرف الصحي العتيقة، الموروثة منذ عهد الاستعمار الإنجليزي قبل 70 عاماً، باتت تئن تحت ثقل حمولة تجاوزت طاقتها الاستيعابية، ما أدى إلى انفجارات متكررة بخطوطها الرئيسة في مناطق واسعة، حيث خلف الطفح واقعاً صحياً وبيئياً مذرياً، أحال قلب العاصمة إلى بركة من المياه الآسنة، وكشف في الوقت ذاته عن مدى التهالك المريع في خطوط ومضخات الشبكة. وضع لا يليق بعاصمة في صراحة وأسف، اضطرت انفجارات الصرف الصحي خلال الأسابيع الماضية والي الخرطوم المكلف، أحمد عثمان حمزة، إلى الاعتذار علناً لمواطني الولاية، واصفاً الحال بقوله: “هذا الوضع لا يشبه العواصم ولا يليق بالمواطنين”. وتفقد الوالي المكلف ميدانياً أعمال إصلاح الخط الرئيس للصرف الصحي، يرافقه مدير عام وزارة البنى التحتية، ومدير هيئة الصرف الصحي، اليوم الخميس 2 يونيو (حزيران)، بالمنطقة الصناعية، حيث الانفجار في الخط الرئيس للشبكة، الذي أدى إلى تراكم كبير للمياه الآسنة في وسط العاصمة، وأصدر توجيهات بمضاعفة العمل، وتسخير كل الآليات لمنع توسع الانفجارات وزيادة مضاعفات الكسر. ورحب والي الخرطوم المكلف، بإعلان أصحاب المحال التجارية والصناعية بجوار المنطقة المتضررة استعدادهم للمساهمة والتجاوب مع جهود تجميل وترقية البيئة بالعاصمة الوطنية، فضلاً عن رصف الطرق والنظافة. وأعلن حمزة، عن جهود كبيرة تبذل لإصلاح العطل، لافتاً إلى أن سبب المشكلة تعطل المضخة الرئيسة بمحطة الضغط السادسة الواقعة جوار جسر المسلمية وعمرها 70 عاماً، كانت قد تمت صيانتها في وقت قريب بتركيب ماكينة جديدة استوردت من الخارج، غير أن تعطل المضخة الداخلية بعمق 11 متراً هو الذي تسبب في طفح مياه المجاري. فوق طاقة الولاية الوالي المكلف كشف في حديث تلفزيوني محلي، تكلفة ضخمة ستترتب على مشروع الإحلال الكامل لشبكة الصرف الصحي بالعاصمة، تقدر بنحو 36 مليون يورو (38.52 مليون دولار)، الأمر الذي يفوق طاقة الولاية المالية، مما حدا بها إلى رفع مقترحاتها للحكومة الاتحادية بالتغيير الكامل للشبكة، لأن الشبكة القديمة صممت للخرطوم بمكوناتها القديمة، من حيث السعة وعدد السكان بما لا يتلاءم مع وضعها الحالي، خصوصاً بعد التوسع الأفقي والرأسي، وتمدد الأسواق الذي شهدته خلال الفترات الماضية، وكان له الأثر الكبير في زيادة مهولة للضغط على الشبكة. وأشار والي الخرطوم المكلف إلى أن محطات التصريف النهائي للشبكة تم تحويلها مرات عدة بسبب التمدد السكني، إذ تم تحويلها من منطقة اللاماب إلى الحزام الأخضر، والآن بعد أن تحولت هذه المنطقة أيضاً إلى مخطط سكني سيتم تحويلها إلى منطقة أخرى تقع جنوب سوبا. من جهته، اعتبر الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم، بشري حامد، أن مسألة الصرف الصحي باتت أحد المهددات الرئيسة للبيئة، وذلك بالمنظور الواسع للصرف الصحي، سواء أكان على مستوى الشبكة التحتية أو الصرف السطحي التقليدي المنتشر بكثرة في المنازل بمعظم مدن الولاية. البيئة تحذر حذر أمين البيئة من خطورة استمرار التوسع العمراني في المباني من دون أن يقابله توسع في شبكة الصرف الصحي ورفع سعتها الاستيعابية، لأن ذلك يكثف الحمولة عليها بشكل لا تحتمله، خصوصاً في ظل مضخات عتيقة متهالكة منذ عهد الاستعمار الإنجليزي. وأوضح حامد، أن عدم وجود مولدات احتياطية في تلك المحطات القديمة، التي تعمل بالكهرباء لتشغيل المضخات، يعرضها للتعطل المستمر، مما يؤدى بدوره إلى توقف الضخ وانفجار الشبكة على النحو الذي شهدته الخرطوم خلال الأسابيع الماضية. وشدد أمين مجلس البيئة على ضرورة تدخل جهات الاختصاص السريع لإنقاذ الموقف والتعامل مع الأمر الواقع بالإمكانات المتاحة، بخاصة بعد أن تمت معالجة مشكلة المولدات الاحتياطية، التي كانت تلعب دوراً كبيراً في الانفجارات، مما سيسهم بتخفيف الطفح والكسور، لكنها لن تحل المشكلة بصورة جذرية، مما يتطلب من إدارة الصرف الصحي أن ترفع من درجة التأهب والاستعداد وتكوين غرفة عمليات للمتابعة اليومية على مدار الساعة واعتبار الأمر طوارئ لا بد من التعامل معها بجدية. وكشف أن شبكة الصرف الصحي الحالية بالخرطوم تغطي فقط 3 في المئة من مساحة الولاية، غير أن الأمر المدهش أن الشبكة لم يحدث بها أي تطوير منذ إنشائها قبل أكثر من نصف قرن باستثناء بعض الامتدادات التي تمت في عهد الرئيس عبود 1964، ومنذ ذلك الحين ظل وضعها كما هو حتى الآن، وهي مسألة غاية الخطورة أدت إلى تهالكها وأصبحت مهترئة وبحاجة إلى استثمارات ضخمة لتجديدها وتوسيعها لتغطي كل أنحاء الولاية. يضيف أمين البيئة بالخرطوم، “تم تصميم وتركيب الشبكة الحالية لمقابلة كثافة سكانية محدودة قدرت وقتها بنحو (10000 إلى 150000) نسمة، لكن يلاحظ أنه ومع عدم حدوث توسيع الشبكة أو تجديد للشبكة، تضاعف عدد مستخدميها إلى أكثر من 2 مليون نسمة، بينما لا يزال النمو السكاني والتجاري والصناعي يتزايد، بالتالي يتعاظم الضغط على استخدام الشبكة. مشكلة مزمنة ووصف حامد المشكلة بـ”المزمنة وستظل تتكرر باستمرار مرة تلو الأخرى، ما يحتم البحث عن حلول استراتيجية طويلة المدى، أساسها تغيير خطوط الشبكة وتوسعتها في اتجاه تشييد نظام صرف متكامل يشمل كل أنحاء الولاية من خلال استثمارات ضخمة لا تستطيع إمكانات وقدرات الولاية الحالية الوفاء به أو توفيره في المدى القريب”. وأضاف “حكومة الولاية ليس لديها المقدرة لتوفير المبالغ الكبيرة من النقد الأجنبي لإنشاء شبكة حديثة تليق بولاية ضخمة مثل الخرطوم تضاهي في عدد سكانها العديد من المدن في الإقليم والعالم من حيث عدد السكان”، وقال “من الغريب والخطير أن نكون في بدايات عمليات الصرف الصحي، بشكل لا يتناسب على الإطلاق مع المستوى الاجتماعي والاقتصادي والديموغرافي الموجود في المنطقة الآن”. اقترح أمين مجلس البيئة إفساح الفرصة لشركات عالمية متخصصة في هذا المجال للعمل بالبلاد، لا سيما وأن العائد من هذه الخدمة كافٍ لتشجيعها، كما لا بد من الاعتراف بأنها الطريقة الأفضل نجاحاً لنقل تكنولوجيا الصرف الصحي للبلاد بعيداً من الإطار الحكومي التقليدي. وأوضح حامد، أن حكومة الولاية تبذل جهوداً حثيثة وتولي القضية اهتماماً كبيراً على مستوى الوالي، غير أن القضية أكبر من إمكانات الولاية وحدها، مناشداً مجلس الوزراء الاتحادي ومجلس السيادة التدخل في هذا الملف حتى يتم تنفيذ شبكة صرف صحي وفق رؤية استراتيجية علمية تتناسب مع عدد ومستوى نمو السكان في الخرطوم. الخلل الفني في السياق ذاته، كشف المهندس صديق مكي، نائب مدير مصلحة المساحة السودانية السابق، عن مشكلات تمثل خللاً فنياً في نظام الصرف الصحي المتبع في السودان لعدم وجود أي محطات معالجات تنقية أولية أو وسيطة، وهو ما يفترض أن تلتزم به المنشآت الصناعية الكبيرة، على الرغم من الشبكة الموروثة منذ الستينيات كانت بمواصفات معقولة ولم تكن تعاني ذلك الخلل، مطالباً بأهمية تحديث وتفعيل قوانين والتشريعات الخاصة بالبيئة والصرف الصحي. أشار مكي إلى أن التمدد السكني غير المدروس ظل يلتهم حتى محطات النهائية ويثقل كاهل الشبكة نتيجة عدم اتباع أي استراتيجية في التخطيط، فضلاً عن غياب الرؤية الخاصة بتوجيه النمو العمراني، وإهمال دراسات الجودة البيئية عند التخطيط لجميع المشروعات، وتغليب العوامل السياسية على الموضوعية والعلمية في قيامها، مشيراً إلى أن نظرة واحدة لحجم المال المخصص للتخطيط في ميزانية الدولة ومؤسساتها، تكفي لتأكيد مدى الإهمال المريع له ولوظيفته، على الرغم من وجود خبرات وعلماء مخضرمين في هذا المجال. التمدد العشوائي لفت نائب مدير المساحة السودانية السابق إلى أن كثيراً من المخططات السكنية التي تمددت في العاصمة لم تخضع لدراسة شاملة تستصحب الطاقة الاستيعابية وحجم مواعين الخدمات المتاح، لأن تجاوز السعة لأي نظام يعرضه للانهيار السريع مثلما حدث في شبكة الصرف الصحي، منوهاً إلى أن أحد أبرز المشكلات المستعصية في البلاد يرتبط بمفهوم استخدامات الأرض والتعامل الخاطئ معه، إذ ظللنا في السودان نعتبرها مورداً بينما هي في الأصل وظيفة لغرض وليست مورد مطلقاً. أشار مكي إلى أن قضية الهجرة المستمرة من الريف إلى العاصمة القومية بسبب انعدام وضعف الخدمات هناك تعتبر واحدة من الأسباب المهمة في تمدد الخرطوم السكني العشوائي، ما شكل ضغطاً على جميع الخدمات بشكل رفع أسعارها وقلل فعاليتها وأثر سلباً في بنياتها التحتية الأساسية، ما يهدد أيضاً بإضعافها وانهيارها لاحقاً. تقدر مساحة ولاية الخرطوم بنحو 22 ألف كيلومتر مربع، وشهدت خلال السنوات الأخيرة نمواً كبيراً في الكثافة السكانية نتيجة الهجرة المستمرة إليها من الأرياف بمعدل يقدر، وفق إحصاءات رسمية، بنحو أكثر من 80 أسرة في اليوم الواحد، حتى أصبحت تكاد تضم ربع إجمالي سكان البلاد (نحو 43 مليون نسمة)، ويتوزع سكان الخرطوم (أكثر من 11 مليون نسمة)، على محليات ولاية الخرطوم السبع، وصل معظمهم إليها من الولايات الأخرى، بحثاً عن الخدمات أو الرزق.