شهر تبدأ فيه كل فصول السياسة . وتنتهي ..تتنوع فيه التفاصيل المفرحة والأليمة وتتهادي عنده أحلام بنيت بالعرق والدم والسهر الطويل ..
يونيو كان حلما وكان وعدا لجهد لطالما خط بناءه . أحذق وامهر (مهندسي) التنظيم والترتيب و (التخطيط) الحلال .. كان يونيو تتويجا لكمال فكرة . سارت علي درب طويل من الشوك والوجع وأذي الطريق الشاق المسير …
جاء يونيو مرحلة مغايرة في تاريخ السياسة الوطنية . وصفحة . جديدة .. لسفر .. عظيم فيه عديد من فصول المدارسة والمقاربة والاجتهاد المضني . والذي أفضي إلي واقع . تمناه الأجمعون أن يكون . بلسما لألم الوطن و وأوجاع مرضه الطويل ..فيه تشخيصا محكما لأسباب أزماته المفجعة . وتوضيحا بائنا لكيفية وضع الوصف الحقيقي (لروشتة) الدواء الذي ينهض بالبلاد من كسيح القول . إلي ناشط القوة و الفعل ..
كان يونيو جهدا متجردا . وبرنامجا . إنسانيا . سودانيا خالصا . للإصلاح المجتمعي ..خاطب أهل السودان جميعهم بلا استثناء . من أحزاب اليسار واليمين والوسط و جعل الحوار (مائدة) . يجلس عندها الجميع (يفرغون) ما في (جوفهم) من قول قديم و (يحركون) عقولهم نحو المصالح العليا و الغايات االنبيلة . فأصبحنا غاب قوسين أو أدني من أن نحقق معجزة النجاح والارتقاء إلي نهاية مدرج السلام . والرفعة . والكفاية لأمتنا الصابرة ..
كان مشروع نهضة السودان مصحوبا بأشواق الوطنيين المرتكزين علي فكرة واضحة المعالم دون غبش أو التواء ..فمهد السبيل لكل الأمنيات أن تذهب علي درب التحقق تمضي يوما بعد آخر . تقاوم وتقاوم لا يشغلها شاغل من بلوغ المقاصد . . تنشد محطات النهايات السعيدة .
كان يونيو حركة مجتمع بأكمله . ومشروعا وطنيا خالصا للمساواة والعدل و بسط الأمن ، مشروعا خطته أقلام مخلصة . ودافعت عنه نفوس مؤمنة . وتجردت في سبيله ارواح متيقنة بالنصر والفرح الكبير .. فالتف حول هذا المشروع أصغر الناس وأكبرهم . دخلت روح جديدة كل المدن والقري والبيوت . صار للوطن طعم . و لترديد حروفه طلاوة . ولجمال اسمه رسما وصورة ولوحة زاهية الحضور والبهاء والكمال .. خرج المشروع من أهل الصفوة والخاصة ليعانق كل .المغلوبين والبسطاء .والكادحين . وأضحي الوطن شعلة متقدة وقمرا يسير في فضاءات الدنيا يهبها جمال المنظر والشارة والرمز المثال .
كان مشروع الوطن مثار إعجاب لكل أهل الأرض . شاهده الأعداء . حاربوه .. فأدركوا قوة تماسكه و صعوبة هزيمته . ونظره الأحباب و الأصدقاء فكان نبراسا وحلما فدعموه و جعلوه محل الرعاية والحنو . والاحتفاء ..
ذهب مشروع الوطن . بعيدا . ولكن .!!! تبدلت الألسن . وطغي التلاوم . وتعددت المناضد . فخفت الفكرة (الملاذ). وغاب المشروع (الأصل) في الأضابير المظلمة . والغرف المعتمة ولحود الموت الخراب . فتجاذب الناس .تلابيب الوطن حتي تمزق رداؤه .وسقط إزاره . وبانت سوأته .. وذهب المغاضبون . ونصبت في جوار النيل العظيم . (فسطاط) المغلوبين علي أمرهم والمكلومين . وتشتت حينها علي قوارع الطرقات أفكار السابلة . وأوغلوا في النشاط في إذهاب عقول أبنائنا بكافة الوسائل والسبل ووسائط التغبيش والتضليل كعادتهم الممجوجة . حتي كثرت الضغوط علي صدر الوطن . حينها غاب رشد حكمة الدولة .. وما بين النيل المبارك . وساحة القيادة . سافرت الي علياء الله . أرواح من شباب نضر يافع غض .. وما بين شاطئ النيل وبوابات الكرامة .. ما تزال فصول الحقيقة غائبة . والجميع ينزع عن نفسه جريمة . دم ابن يوسف . حتي ذهب الناعي في مدينة المقرن . يضرب (يدا .. بيد ) . . وصارت من بعد ذلك الشوارع والأزقة . فوارة . الجوانب . صخابة .يملؤها. الغضب و صوت الفجيعة ودمع المغلوبين …
وما بين تلك الذكري وهذي ..وما بين الأمس واليوم . تبدلت الشواهد و تنوعت المعالم . وجف مداد أقلام الثقة .. فغاب مشروع وحدة الوطن . وأصبح البلد مرتعا لكل (أصحاب) المصلحة ..يحملون عصيهم . علينا .ليل نهار بالترغيب والترهيب .. حتي صار الاحتماء بالغرباء . مكسبا والارتماء في أحضانهم . عزا و مفخرة ..
و إن تطاول ليل السقوط الطويل .. لا بد من مشروع سوداني خالص يحمل سحناتنا وملامحنا . يرتوي من ماء النيل ويشبه جبال الغرب . وسفوح الشرق الجميل . مشروعا مشبعا برصانة الوسط وشكيمة الجنوب وعز الشمال التاريخ والحضارة ..
مشروعا
يفج الدنيا ياما
و يطلع من زحامها
زي بدر التمام
يدي النخلة طولها
و الغابات طبولها
و الايام فصولها
و البذرة الغمام
وإلي حين القيام في صف الوطن نستأذن في رصيف الانتظار ..
الشفيع أحمد عمر