—
كشف تحقيق استقصائي لـ(اليوم التالي) عن توقف نحو 16 صحيفة ورقية عن الصدور، أبرزها “آخر لحظة، والحداثة، والمجهر السياسي، والديموقراطي، والمشاهد، وعالم النجوم”، في ظل تفاقم ظاهرة هجرة الصحفيين نحو وظائف أخرى بعضها شاق.
وفي السنوات الأخيرة شهدت الصحافة الورقية تدهوراً كبيراً كاد يعصف بها، وأرجع المتحدثون لـ”الصحيفة” أزمة الصحافة إلى 7 أسباب أبرزها: انخفاض التوزيع بنحو 30 بالمئة، وتراجع الإعلان بنحو 60 بالمئة، إضافة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج بأكثر من 500 بالمئة خلال الفترة ذاتها، وتقهقر البيئة المادية اللازمة لاستقرار المهنة، علاوة على تقييد الحريات الصحفية بشكل كبير في ظل النظام البائد.
تأثر الصحافة بالأوضاع السياسية
وبحسب الصحفي عبدالله رزق تتأثر الصحافة السودانية بشدة بالأوضاع السياسية في البلاد، وخصوصاً فيما يتصل بنظام الحكم وموقفه من الديمقراطية، وقال رزق في إفاداته لـ(اليوم التالي): إن نظام البشير الذي قام على أنقاض نظام ديموقراطي انقلب عليه، كان في مقدمة قراراته يوم الانقلاب قرار بإيقاف الصحف، ومنذ ذلك الحين بدأت معاناة جديدة للصحافة استمرت لثلاثة عقود، تنوعت فيها أشكال تلك المعاناة وتعددت.
ويضيف رزق في إفاداته “لا يتعلق الأمر بالمناخ السياسي وغياب الحريات الديمقراطية وحسب، وإنما بالأوضاع الاقتصادية التي تأزمت بسبب سياسات النظام، وفشله في معالجتها مما دفع بالأمور إلى الثورة التي اقتلعت النظام في ديسمبر 2018”. وتابع: وقد تأثرت الصحف، مرة أخرى، بالتطورات السلبية في الجانب الاقتصادي، فعانت من ضعف عائد التوزيع وشح الإعلان مقابل ارتفاع تكلفة الإنتاج وهو ما أدى بالصحف في السنوات الأخيرة من عمر الإنقاذ للتوقف واحدة بعد أخرى، ولم يتحسن هذا الوضع حتى بعد الثورة. اذ ازدادت الأزمة تفاقماً، ولذلك فإن الخروج من نفق الأزمة لا يتعلق بأوضاع ذاتية خاصة بالصحف بمعزل عن أوضاع موضوعية تتعلق بالأوضاع العامة، لاسيما الاقتصادية التي تعيشها اليلاد. وهو أمر يقتضي شيئاً من الوقت قد يطول.
صحافة وليدة
وبحسب رزق شهدت هذه الفترة ازدهار الصحافة الإلكترونية، كتعبير عن مواكبة التطورات الدولية المتصلة بمعطيات ثورة تكنولوجيا الاتصالات، أكثر من كونها انعكاساًأاو استجابة لأزمة داخلية.
وأضاف: مع ذلك حاولت هذه الصحافة الوليدة ملء الفراغ الذي خلفه تراجع الصحف لا سيما المستقلة، أو أن تكون بديلاً لها، غير أن هذه الصحف لا غنى لها عن التمويل الكافي، وهو مشكلة الصحف الورقية الكبرى، ويشمل ذلك عائد المبيعات والإعلان، ومن ثم تحقيق ربح، يغطي تكلفة الإنتاج المرتفعة أبداً بدلالة تدني القيمة الشرائية للعملة المحلية المضطرد، وأجور الصحفيين، باعتبارها استثماراً.
ومضى بالقول: لا يبدو حتى الآن، من واقع تجربة الصحافة الإلكترونية، التي توظف عدداً محدوداً من الصحافيين أنها قد استطاعت التغلب على التحديات الماثلة في واقع الصحافة.
حرث في بحر
ويقول الأمين العام للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية د. عبد العظيم عوض لـ(اليوم التالي) إن الصحافة تواجه مشاكل حقيقية الآن بالنظر للضائقة الاقتصادية التي تمر بها البلاد حالياً، وهذا مؤسف بالتأكيد، وأضاف: هذا الوضع انعكس على الصحفيين وعلى الأداء الصحفي عموماً، فبات الحديث عن حرية الصحافة حرث في بحر في ظل الأوضاع البائسة للصحافة حالياً، صحيح هناك اجتهادات مهمة تضطلع بها بعض المؤسسات الصحفية، وتابع: لكن هذا ليس كافياً ولا يتسق مع طموحات الرأي العام الذي كان ينتظر من الصحافة أن تكون رأس الرمح في عملية التحول الديمقراطي المنشود، في ظل ضعف واضح في أوساط الأحزاب والتنظيمات السياسية، المشاكل التي تواجه صناعة الصحافة حالياً يمكن إجمالها في ارتفاع جنوني لإدخالات إنتاج الصحيفة وأهمها الورق وتوابعه فضلاً عن أسعار الطباعة نفسها، ثم التوزيع الذي لا يتعدى العاصمة الا بمجهودات فردية متواضعة ولا تشمل الولايات النائية.
تلاشٍ واختفاء
ويقول صالح إنه لكل ذلك وغيره صار تأثير الصحافة محدوداً، ولم يعد الناس ينتظرونها كل صباح لمعرفة الأخبار، خاصة في ظل هيمنة المواقع الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي على صناعة الخبر ونشره وتوزيعه على أوسع نطاق وبسرعة فائقة.
ويرى صالح أن هذا لا يعني تلاشي أو اختفاء أثر الصحافة الورقية، بالعكس يظل تأثيرها أكبر وأخطر برغم العقبات التي تواجهها حالياً، والحل عندي يكمن في قيام مؤسسات صحفية كبيرة بإمكانيات واسعة.
واستطرد بالقول: يمكن للدولة أن تدعمها لتصدر بهيئة مقنعة للرأي العام ومشجعة لمنسوبيها من الصحفيين بمختلف تخصصاتهم المهنية وتكون مشرفة لبلد عرف الصحافة منذ أكثر من 120 سنة، وهذا وحده كفيل باختفاء الصحف الضعيفة التي نراها الآن تزحم الأسواق بلا فائدة أو تأثير يذكر !.
غياب الدعم الحكومي
أما الصحفية نادية محمد علي فردت الأمر إلى عدة أسباب أبرزها: التردي الاقتصادي للبلد عموماً وتدني قيمة الجنيه أمام الدولار كان له تأثير سيئ جداً على الصحف الورقية بسبب ارتفاع أسعار ورق المطابع والأصباغ وتكاليف الترحيل والتوزيع داخل العاصمة والولايات في ظل غياب دعم الحكومة لصناعة الصحف وهو وضع دفع الناشرين وملاك الصحف إلى تخفيض العدد المطبوع من الصحف إلى أقل من 10% عن السابق للحفاظ على وجودهم في السوق وتبع ذلك ارتفاع في أسعار الصحف في ظل تردٍ معيشي يعيشه المواطن وأدى ذلك لكساد نوعي في سوق الصحف وقلة العائد من التوزيع كذلك واجهت الصحف الورقية أزمة أخرى تمثلت في حصرية الإعلانات الحكومية لصحف بعينها مما أفقد الصحف الأخرى مورداً مهماً من مواردها المادية وتسبب في إفلاسها وخروج بعضها من المنافسة في السوق واتجاه صحف أخرى لخفض عدد الصحفيين إلى أكثر من 70% في أقسام التحرير المختلفة الأمر الذي ألقى بالعبء التحريري لعدد محدود من الصحفيين داخل تلك الصحف بأجور زهيدة مع المطالبة من الناشرين والقراء على السواء بتقديم مادة صحفية مميزة ومحكمة .
هجر المهنة
وتقول نادية في إفاداتها لـ(اليوم التالي) إن عدداً كبيراً من الصحفيين الذين فقدوا وظائفهم بسبب توقف عدد من الصحف عن الصدور اتجهوا لمهن أخرى انتظاراً لتحسن الأوضاع وعودة صحفهم للصدور فيما اتجه آخرون لإنشاء مواقع إلكترونية إخبارية أو العمل مراسلين لصحف ووكالات أنباء عربية وعالمية .
وأشارت نادية إلى أن مستقبل الصحافة الورقية مرهون بوجود ناشرين قادرين على مواجهة تكاليف طباعة الصحف وتقديم استقرار وظيفي للصحفيين ومرهون كذلك باتجاه الدولة لإعفاء مدخلات صناعة الصحف من الجمارك الباهظة لتشجيع دخول مستثمرين جدد في سوق الصحافة الورقية وعدا ذلك فالمستقبل للصحف الإلكترونية الأقل تكلفة مادية لأصحاب المواقع الإلكترونية ولمتابعيهم من القراء.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن معدل التوزيع الحالي يتراوح بين 35 إلى 40 ألف نسخة يومياً وهو معدل منخفض جداً مقارنة بعدد سكان السودان البالغ نحو 39 مليون نسمة، كما أنه بعيد عن المعيار العالمي لمنظمة اليونسكو الذي يفترض معدلات توزيع 100 نسخة لكل ألف من السكان، وكشفت عن توقف نحو 15 صحيفة يومية عن الصدور.
إحصائيات رسمية
وبحسب تقرير المجلس القومي للصحافة والمطبوعات للعام 2021 بلغ عدد الصحف العاملة بصورة منتظمة (32) صحيفة (19 صحيفة سياسية و8 رياضية و5 اجتماعية)، وبلغت أيام الطباعة 366 يوماً، وفيما بلغت إجمالي الكمية المطبوعة للصحف (19.765.510) نسخة، منها 66% للصحف السياسية و17% للصحف الاجتماعية و17% للصحف الرياضية، وفيما بلغ التوزيع الفعلي للصحف خلال العام 2021 (13.416.244) نسخة بنسبة 68% من المطبوع، حصلت الصحف السياسية على نسبة توزيع 64% والصحف الاجتماعية على نسبة 20%، و16% للصحف الرياضية، وبلغ إجمالي التوزيع الفعلي للصحف بالعاصمة (6934080) نسخة، بنسبة توزيع عامة من المطبوع بلغت 68%، وبلغت نسبة توزيع العاصمة الخرطوم من المطبوع 52%، بينما بلغ متوسط التوزيع العام للصحف (60894) نسخة .
تراجع مخيف
بدوره يقول الناشر وصاحب شركة توزيع للصحف، خالد الخليفة لـ(اليوم التالي) إن توزيع الصحف تراجع بنحو 30 بالمائة، مشيراً إلى أنها وصلت القمة للأحداث إبان انفصال الجنوب، ويرى الخليفة أن من أسباب تراجع الصحف الورقية أيضاً سرعة انتشار الخبر في مواقع التواصل الاجتماعي وتراجع حجم الإعلان بنحو 60 بالمائة، إضافة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج بأكثر من 500 بالمائة خلال الفترة ذاتها، وتقهقر البيئة المهنية والمادية اللازمة لاستقرار الصحف والصحفيين.
تكاليف باهظة
أما الصحفي الرياضي حافظ محمد أحمد، فيقول في إفاداته لـ(اليوم التالي) إن الأزمة التي عانت منها الصحافة الورقية والتي يتعلق الكثير منها بالصرف المالي مقابل العائد المادي الضعيف، قاد لتوقف بعض الصحف الرياضية وخروجها تماماً من دائرة المنافسة على غرار عالم النجوم، وصحيفتي المريخ والهلال، الأهلة، الكابتن، وصحيفة المشاهد التي تعد واحدة من أعظم الصف في وقتها، علاوة على تذبذب صدور بعض الصحف مثل الأسياد التي غابت فترة قبل أن تعود مجدداً، واتجهت بعض الصحف لإصدار أعداد إلكترونية التي لا تكلف سوى أجور الصحافيين والمنفذين، عوضاً عن الإصدارت الورقية على غرار صحيفة الجوهرة وصحيفة الزعيم، كما ظهرت صحف تصدر إلكترونياً عبر نسخ “بي دي إف” ويتم توزيعها على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وتقلص عدد الصحف في الفترة الحالية ليقتصر على صحيفة الصدى وقوون، بجانب الأحمر الوهاج.
وأشار حافظ إلى تقليص الصحف الرياضية عدد صفحاتها من 12 صفحة إلى 8 صفحات فقط، كما قلصت عدد العاملين بها، لتخفيف الإنفاق المالي الكبير، مقارنة بتراجع واضح في الاعداد المطبوعة وضعف العائدات المالية مثل الإعلان.
حراك موضوعي
فيما يشير عضو اللجنة التمهيدية لنقابة الصحفيين أحمد خليل في إفاداته لـ(اليوم التالي) إلى أن الحراك الذي يشهده الوسط الصحفي هذه الأيام هو حراك موضوعي نتيجة لبروز جسم يدافع عن الصحفيين والحريات الصحفية والإعلامية وبالتالي فكر الصحفيين بعد الانقسام الذي شهدته الساحة الإعلامية بالتوحد في جسم يدافع عنهم بالتركيز على الحريات وحماية الصحفيين، وتابع: نعمل حالياً على وضع أسس تنظيمية جديدة تصب في إطار تحسين أوضاع المؤسسات الإعلامية والصحفية لضمان توفير بيئة مهنية جاذبة تحافظ على حقوق الصحفيين.