الأساس المنطقي والموضوعي والأولوية القصوى لتأسيس و بناء أي دولة هي التوافق و الإتفاق المجتمعي ( ليس السياسي) على دستور و تشريعات و هياكل تمثل و تعبر عن الهوية الوطنية المشتركة، و صياغة الدستور نفسه مسئولية تضطلع بها الدولة ( ليس الأحزاب) عبر مؤسساتها المعتمدة و لذلك فإن ترك عملية بناء و صياغة الدستور تاريخيا للمكونات السياسية كان سببا محوريا في جعل الدستور عرضة للتجاذبات الحزبية و الأيدلوجية و التدخلات الخارجية و ذاك هو الخطأ التاريخي و الإستراتيجي الذي وقعت فيه النخب الفكرية و السياسية في السودان حيث أصبحت عملية التوافق على دستور في ظل التجاذب والتنافس السياسي و الأيدلوجي ضرباً من ضروب المستحيل تماما كما هو الحال بالنسبة لقضية فصل السلطات وتكالب الأحزاب على تسيس و إختطاف مؤسسات الدولة التنفيذية و التشريعية و العدلية و حتى المؤسسات السيادية مثل الأجهزة العسكرية و الأمنية و غيرها و لذلك فالخطوة الأولى لبناء دستور متوافق عليه هي تحرير مؤسسات الدولة من قبضة السياسيين لتضطلع بمهامها و تقوم بأدوارها المتناغمة و المكملة لبعضها البعض في بناء الدولة و حراسة الوطن.
تاريخيا أيضاً ظلت مؤسسات المجتمع المدني مثلها مثل بقية مؤسسات الدولة الأخري عرضة للإختطاف و التوظيف السياسي و الأيديولوجي من خلال الهيمنة عليها و تدجينها من أجل خدمة الأجندات و المصالح الحزبية لا القومية عبر النشاط الحزبي المباشر و عبر الإنقلابات العسكرية والحكومات الإنتقالية و المنتخبة و تلك واحدة من النقاط الجوهرية التي تؤكد عدم ديمقراطية الأحزاب نفسها و التي بسببها فشل السودانيين في التوافق على دستور يمثل الهوية القومية للبلاد و الإتفاق على كيفية إدارة الإختلاف بينهم ببناء مؤسسات وطنية تضع الأجندة و المصالح الوطنية العليا في مكانها الصحيح فوق الأجندة و المصالح الحزبية و الأيدلوجية و مهيمنة عليها.
حينما قامت الثورة برز تجمع المهنيين كمؤسسة مجتمع مدني قادرة على قيادة العمل الثوري و الإداري لمطلوبات و إستحقاقات الثورة إلتف حولها الناس بجميع ألوانهم السياسية و الأيدلوجية و الجهوية و العرقية و الإثنية و الدينية و كانت ملحمة الإعتصام واحدة من اللحظات الفارقة في تاريخ السودان التي تجاوز الناس من خلالها خلافاتهم و إختلافاتهم من أجل تحقيق هدف واحد متوافق عليه و رسم لوحة وطنية أدهشت العالم في الإصرار على إنتزاع الحقوق المدنية في الحرية و السلام و العدالة الإجتماعية و كانت اللحظة الفارقة الأولى في النكوص عن مبادئ الثورة ظهور تجمع المهنيين بوجهه السياسي الصريح بقيادات حزبية يسارية صارخة بعد سقوط النظام في أكبر جريمة يشهدها التاريخ السياسي السوداني في سرقة الثورات و توظيفها لخدمة مصالح أيدلوجية بصورة لا تقل تطرفاً عن تطرف الإنقاذ و العودة بالسودان للمربع التاريخي المعتاد في فاصل جديد من فصول الصراع و العراك و تصفية الحسابات السياسية و بث خطاب الكراهية و تخوين الآخرين و تجريدهم من ممارسة حقوقهم السياسية و الإجتماعية و توظيف الثورة و تجييرها لصالح الأيدلوجيا بنفس الطريقة التي كان يستخدمها النظام الذي ثرنا عليه و ما سبقته من أنظمة متعاقبة منذ الإستقلال حتي أصبح الإقصاء هو السمة البارزة و المهيمنة على المشهد حتى بين القوي السياسية التي قادت الثورة نفسها و وضح مجدداً أن الأحزاب السياسية لاتؤمن بمبادئ الثورة إلا من خلال الخطاب الهتافي الذي تم حقنه وتسميمه بخطاب متناقض مع مبادئ الثورة نفسها فيما يمثل تنكراً و نكوصاً عن مبادئ الثورة وقيمها و مطلوباتها الأساسية.
فشلت الأحزاب كعادتها في إدارة دولاب الدولة و حولت البلاد إلى حالة من حالات الإصطفاف و التمترس أدت في النهاية لإنسداد الأفق السياسي و جر البلاد إلى معركة عبثية عادت بنا القهري إلى مربع الإنقلابات العسكرية بالرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب السوداني إقتصاديا و أمنيا و إجتماعيا في أبشع جريمة سياسية و قانونية و أخلاقية يحاسب عليها القانون و التاريخ.
إن قضية التوافق والإتفاق علي بناء دستور يمثل الهوية الوطنية هي أولى الأولويات في بناء الدولة و لما كانت الأحزاب السياسية تضع عملية بناء الدستور في ذيل إهتماماتها أملاً في حسم معركة بناء الدستور نفسه أيدلوجيا واحدة من أكبر الجرائم الأخلاقية التي ينبغي أن تحاسب عليها القوى السياسية مجتمعة و من أجل معالجة تلك المعضلة التاريخية لابد من إجراء عملية تصحيحية كبرى و إحداث نقلة في التصورات و المفاهيم الخاطئة للعقل الجمعي النخبوي السوداني في أن عملية بناء الدولة ليست من مهام و مسئوليات الأحزاب أو السياسين و إنما هى مسئولية مجتمعية بالدرجة الأولى يضطلع بها المجتمع المدني عبر مؤسساته المختلفة ولا يمثل فيها الشق الحزبي إلا النذر اليسير و لما كانت لجان المقاومة تمثل أحد أذرع القوى الحية في المجتمع المدني الغير سياسي فهناك فرصة لإحداث إنقلاب لصالح تصحيح و توزيع الأدوار في عملية بناء الدولة بفك الإرتباط بين لجان المقاومة و الأحزاب و توظيفهم في عمليات بناء المجتمع المدني بإعتبار أن بناء المجتمع المدني هو الخطوة الأولى و الجوهرية للسير في الإتجاه الصحيح من أجل بناء الدولة المدنية و أخذ الحقوق و تحقيق العدالة الإجتماعية و وضع الأحزاب السياسية في موضعها الصحيح لأن بناء المجتمع المدني الرائد هو الضامن الوحيد لعدم هيمنة الأحزاب و تسيسها لمؤسسات الدولة و عدم توظيفها سياسيا و ضمان عدم حدوث إنقلابات عسكرية و إضطلاع المؤسسات العسكرية و الأمنية بدورها الطليعي في حراسة الوطن و أمنه القومي.
إن إعتقاد القوى اليسارية بأن عملية إسقاط الجيش عن طريق الفعل الثوري بواسطة شريحة من المجتمع المدني ( لجان المقاومة) و توظيفها لصالح برنامجها العلماني هو تكرار للتجارب السابقة وهو عملياَ غير ممكن و لم و لن يحدث الإستقرار السياسي المنشود حتى و إن سقط الشق العسكري في الإتفاق السياسي المبرم و في تقديري أن ذلك السيناريو مستبعد جداَ نتيجة لكثير من التعقيدات الجيو سياسية الداخلية و الإقليمية و الدولية و إن حدث فلن يحدث التغيير المنشود إلا مؤقتاً ( و تجربة الإنقاذ ليست عنا ببعيد) و ستكون التكلفة باهظة الأثمان على مستوى الأمن القومي في حصد الأرواح و الممتلكات العامة و المستويات الإقتصادية و الإجتماعية و سيكون مدعاة لمزيد التدخلات الخارجية بمطامعها الإقتصادية و الأمنية و الهوياتية و التأثير على إستقلالية القرار السياسي و السيادي.
ختاما لامجال للإصلاح السياسي في السودان إلا من خلال إعطاء العملية الدستورية الأولوية القصوى و لايمكن إحداث ذلك إلا بإستقلالية المجتمع المدني من الإستغلال و التوظيف الأيديولوجي و السياسي التاريخي و معركة إستقلالية المجتمع المدني عملية معقدة لا يمكن تحقيقها إلا بتوظيف القوى الحية في المجتمع و إحداث إنحرافة محورية كبرى في توظيف لجان المقاومة بإعتبارها قوي رائدة في المجتمع المدني و تحويل معركتها من الفعل الثوري العبثي إلي معركة بناء دستور سوداني مرتكز على الهوية الوطنية المشتركة و مما يشجع على ذلك ما برز مؤخراً من طلاق بائن و فقدان للثقة بين الشباب الثوري و الأحزاب و قد وضح جلياً التوظيف القذر للشباب الثوري في معركة أيدلوجية خاسرة لم ولن تؤدي إلا لمزيد من الخراب و الدمار و الإحتقان و مزيد من الدم المسفوح و حصد أرواح الشباب الثائر مجاناً و لم و لن تؤدي المواجهة مع الجيش و المؤسسات الأمنية إلى إحداث الإستقرار السياسي المنشود مهما كان حجم التضحيات، و تبقي الثورة بتطلعاتها و أحلامها و أشواقها في إنتظار لحظة فارقة للمضي قدما على الطريق الصحيح من جديد … نواصل