التراث هو مرآة الشعوب التي تعكس هويتها وأصالتها وثقافاتها، ويعتبر السودان دولة متعددة الثقافات واللغات إذ يعد من أهم الدول الغنية بالموارد الطبيعية المتنوعة منذ عصور قديمة، ما ساهم في تكوين أنماط ثقافية مختلفة ولها بصمتها الخاصة عالميا، وفي تأكيد لأهمية التراث الثقافي السوداني التقينا في هذا الحوار الأكاديمي أسعد عبدالرحمن الأمين العام للمجلس القومي للتراث الثقافي وترقية اللغات.
—
ساعد اختلاط وتمازج الثقافة المحلية بالثقافة الوافدة في السودان على تكوين موروث حضاري مميز له خصوصيته وتفرده بين الدول الأخرى.
ويتحدث الدكتور أسعد عبدالرحمن، الأمين العام للمجلس القومي للتراث الثقافي وترقية اللغات، عن دور التراث الثقافي غير المادي في تحقيق السلام في السودان قائلا “يعرف التراث الثقافي غير المادي بتعدد مجالاته المختلفة، والمتمثلة في أشكال التعبير والممارسات والعادات والتقاليد والمعارف، وما يتصل بالفلكلور من صناعات ثقافية، ودلالات الاهتمام به”. مؤكدا على أهمية التراث غير المادى ودوره في الوحدة الوطنية.
توظيف التراث
يشير عبدالرحمن إلى الاتفاقية العالمية لصون التراث 2003 ودورها في تحقيق السلام والاستقرار والاعتراف بالآخر والمساواة. ويبين الدور الذي يلعبه المجلس القومي للتراث الثقافي بالتعاون مع الجهات ذات الصلة والممارسات الثقافية في المجتمع السوداني وتفعيل دورها في تعزيز الهوية ونبذ العنصرية والتصالح والاستقرار وبسط السلام، مضيفا أنه من المهم تحديد وتعريف التراث الثقافي غير المادي بمجالاته المختلفة ومن ثم حصر المجالات التي تشتمل على عناصر يمكن توظيفها لخدمة المجتمع ولتحقيق السلام، وحمايتها بتصنيفها وحفظ مواردها في الأرشيف وإجراء الدراسات والبحوث حول هذه العناصر، وفي مرحلة لاحقة وضع البرامج والأنشطة بمشاركة كل فئات المجتمع لتوظيفها في تحقيق السلام.
ويضيف أنه من المجالات المهمة التي يمكن أن تساهم في تحقيق السلام في السودان الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات، والتي تشمل الاحتفالات الدينية والنفير كمؤسسة اجتماعية تتمثل في تعاون شباب المنطقة على إنجاز عمل معين دون أجر، كذلك الاحتفالات الموسمية مثل الاحتفالات بأعياد الحصاد في المواسم الزراعية.
هذه الممارسات يشارك فيها كل أفراد المجتمع بكل طبقاتهم الاجتماعية وجميع الفئات العمرية، يمكن أن تسخر لخدمة المجتمع لتحقيق السلام والمساواة من خلال التفاعل بين أفراد المجتمع، إذ يؤكد عبدالرحمن على ضرورة الاهتمام بها ودعمها وتوظيفها في تحقيق السلام والمساواة بين أفراد المجتمع.
ويؤكد أنه من عناصر التراث المهمة ما نجده في مجال فنون أداء العروض مثل الرقص والموسيقى والدراما الشعبية جميعها يمكن أن توظف لخدمة المجتمع، خاصة في البلدان التي تتميز بالتنوع والتعدد الثقافي مثل السودان.
ويشير إلى أهمية تنظيم مهرجانات واحتفالات سنوية تشارك فيها كل الجماعات والمجموعات المختلفة لتبرز تراثها وتتاح لها فرص لتعريف بعضها البعض بإرثها، مما يساعد في دعم التواصل والتفاعل. كما يمكن استخدام المتاحف والروابط والمراكز والاتحادات المحلية كفضاءات ثقافية لممارسة مثل هذه البرامج. ويمكن أيضا لأنشطة صون التراث أن تساهم في السلام وذلك بمشاركة كل قطاعات المجتمع المحلي، الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، مما يساهم في درء النزاعات وحلها وإرساء الأمن المستدام وبناء السلام والاستقرار.
ويبيّن عبدالرحمن أن هناك نماذج لممارسات التراث في المجالات الاجتماعية المحلية المتعلقة بالحوار وتسوية النزاعات والمصالحة مثل “الجودية” وهي مصطلح سوداني متجذر ينشط وسط القبائل والمجتمعات المختلفه في السودان، يعني الإشراف على تسوية الخلافات وفض النزاعات والخصومات بين أفراد المجتمع على مختلف مستوياتهم في إطار مؤسسات محليه دون اللجوء إلى المحاكم الرسميه أو الشعبية، والتي بحسب التجارب تؤدي وتلعب دورا حاسما في المجتمعات، ونجدها أيضا في العديد من الدول العربية، من خلال دورها في المساعدة في تنظيم المناطق المشتركة والموارد الطبيعية لتمكين الناس من العيش بسلام.
يقدم أسعد عبدالرحمن عددا من التوجيهات والتوصيات التي تدعم التراث غير المرئي لأداء دوره بفاعلية وتحقيق أهدافه في ترسيخ الاستقرار والسلام في السودان، ويدعو بداية إلى إكمال مشروع المسح الآثاري الشامل في السودان لإنجاز الخارطة الأثرية، كما يشدد على ضرورة إكمال مشروع المتاحف المجتمعية لاستخدامها كفضاءات ثقافية، وإحيائها وربطها بالمجتمعات المحلية.
وينادي عبدالرحمن بأهمية الترويج للتراث بشقيه المادي وغير المادي عبر وسائل الإعلام المختلفة من أجل تعريف الجماعات والمجموعات بتراث بعضها البعض لخلق التقارب والتفاعل بين المجموعات، علاوة على تخصيص مدة زمنية كافية للتعريف بالتراث الثقافي عبر البرامج في الإذاعة والتلفزيون لتعزيز القيم الفاضلة التي يشملها التراث في نفوس الناس وترسيخ السلام والوحدة الوطنية.
ولتحقيق فاعلية أكبر للعناصر التراثية يدعو عبدالرحمن إلى تدريب الكوادر العاملة في مجال الإعلام بالتعريف بالتراث ومجالاته وفي مدى الإفادة من التراث في إعداد البرامج الإعلامية التي تروج له، إضافة إلى إدخال مادة التراث والإعلام والثقافة والسياحة في المناهج التربوية، وسن القوانين لحماية التراث، وكذلك تكوين لجنة من الخبراء مهمتها بيان دور التراث في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتنمية المستدامة لوضع سياسات واستراتيجيات في هذا الخصوص، إضافة إلى ضرورة إنشاء جسم موحد يعنى بالتراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي.
ويشدد عبدالرحمن على أن صون التراث الثقافي غير المادي يعزز ظهور مجتمعات سلمية وعادلة وشاملة وتقوم على احترام حقوق الإنسان. ويتحقق ذلك عبر الاهتمام بالممارسات والتعبيرات والمعارف في هذا التراث ما يساعد الجماعات والمجموعات والأفراد على تجاوز الاختلافات في الجنس أو اللون أو العرق أو الأصل أو الطبقة أو الإقامة ومعالجتها. مؤكدا على ضرورة التشجيع على الدراسات العلمية ومنهجيات البحث المتعلقة بهذا التراث، بما في ذلك الدراسات التي تجريها الجماعات والمجموعات نفسها، التي تهدف إلى إظهار تعبيرات وممارسات وتمثيلات التراث الثقافي غير المادي كعوامل مساهمة في منع النزاعات وحل النزاعات سلمياً.
ويبيّن الأكاديمي السوداني أن تنظيم مهرجانات واحتفالات سنوية تشارك فيها كل الجماعات والمجموعات المختلفة لتبرز تراثها من شأنه تحقيق التفاعل والتواصل فيما بين هذه الجماعات وبالتالي نبذ الصراع وتحقيق قيم التعايش.
ويضيف “هناك عوامل كثيرة ساعدت ويمكن أن تقدم مساعدات إضافية للاستفادة من التراث في تحقيق تلك الأهداف أهمها أن الثقافة السودانية استطاعت أن تجد مكانها بين الشعوب الأخرى، ومازالت الثقافة الأفريقية هي التي تميز الثقافة السودانية مع التداخل مع الثقافات الأخرى، ثم إن موقع السودان الجغرافي جعل منه حلقة الوصل ما بين دول البحر الأحمر، إذ يعتبر ملتقى طرق لتلاقي الثقافات. وهذا ما يؤكده التراث الثقافي السوداني الذي يعبر عن هوية الدولة ويمثل الصلة بين الحاضر والمستقبل مما يعزز الانتماء واستدامة السلام”.