الشعر الفصيح ليس هو فقط الذي كان يقود تجربتي هناك الأغنية العامية:
جيل السبعينيات له بصماته الجارحة على أشكال الكتابة:
محمد نجيب محمد علي” شاعر وكاتب سوداني، من مواليد “أرقو” السودان، عام 1953، حصل على درجة الليسانس من قسم الدراسات الفلسفية بجامعة القاهرة. وتُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنجليزية، تغنى بقصائده مغنون سودانيون في أعمال مسجلة بالإذاعة والتلفزيون، عمل صحفيّاً، ومشرفاً على صفحات أدبية، ورئيساً لقسم التحقيقات في صحف: (الأضواء، والجريدة، والأيام، ومجلة الإذاعة والتلفزيون)، كما عمل مدرساً للفلسفة بمدارس اليمن، ثم مديراً لمصنع أحذية الخيرات بأم درمان، وشارك في مهرجان المربد ببغداد 1987. عمل مديراً لمكتب صحيفة الوطن القطرية ومراسل ثقافي للجزيرة نت.
من أعماله:
ـ تعاويذ على شرفات الليل، ديوان شعر، 1971.
ـ ضد الإحباط، 1974.
إلى الحوار
زامل عدداً من الشعراء التجاني سعيد. سعد الدين إبراهيم. القاص سامي سالم.
تميز بامتلاكه ناصية المنطقة الحرة الواقعة بين ملكوت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وفيها يطارد أرانب خياله الذهبية طفلاُ لا يلوي على شيء. يحيا للشعر وبالشعر ليعلن عن تميزه.. معتداً بروح الشاعر المتمرد فيه.
الى الحوار:
محمد إسماعيل ِ
كانت طفولتي شريرة الملامح، هكذا أنظر لها الآن.. أذكر كنت من الأولاد الذين يستأسدون على شوارع المدينة الصغيرة (أرقو) يغلقونها ويفتحونها حسب أمزجتهم الخاصة، كان أولاد (حلة فوق) يعانون كثيراً من أولاد (حلة تحت) وأفعالهم الشيطانية.
ترى كم جرح فعلناه في ذاكرة ذلك الزمان.. هذا المدخل هو بعض من بقايا الذاكرة الحية التي أحاول من خلالها اكتشاف خارطة الأعماق المدن والموانئ والجبال والترسبات التي حدثت والتي قادتني لأن أكون شاعراً علماً بأنه لم يكن لي حق الاختيار في ذلك.
كنت مغرماً بالتحديق في الطائرات والعصافير والصقور الكبيرة التي تحلق في البعيد، كانت دموعي تراودني بحياء شديد وكأني أتيت لهذا العالم بغربة قديمة جعلتني أحس بيُتْمٍ خاص وبفقد لم أكن أستطيع أن أسميه.
أذكر الآن المدرسة الأولية تلك التي تستطيل مساحاتها عرضاً وطولاً وتضيق عند القلب وتجعلنا رجالاً في سن الطفولة ننتظر متى تنبت اللحية ومتى يولد الشنب ونجاهد في ذلك بأمواس (أبو تمساح) مخلفات آبائنا على ماكينات الحلاقة ربما يكون كل ذلك بعض من بداية الإرهاصات التي تخللت الداخل وجعلت للتمرد وجهاً سحرياً ينادي أينما يكون الالتفات. كتبت لأمي رسالة أعني بها أبي، كانا قد هاجرا إلى العاصمة أم درمان وتركاني هناك لأكمل تعليمي الأولي داخل غربة مغلقة مسورة بالوصايا والسوط وتكشيرة عمي.. كتبت لأمي بصوت يسبق الأحرف (أمي الغالية إنني ابنك ولقد قررت أن أموت بضربة الشمس “أعني بالسحائي”)، كنت أحاول تحقيق ذلك بجدية قادتني لأعلو صهاريج المياه منتصف نهار بحثاً عن عين الشمس الساخنة جدية فشلت في تحقيق مآربي وجعلتني أعاني من الصداع لأعوام طويلة.
بنات الجان:
زملائي في المدرسة كانوا يتحدثون عن بنات الجان الذين يسكنون الخرائب القديمة ويبنون بيوتهن من رماد الفحم، وكانوا يحذرون من الاقتراب من تلك الأماكن، كما كانت توصي بذلك الحبوبات إلا أنا، اقتربت كنت أصل أكثر الخرابات دمامة في المدينة بحثاً عن هؤلاء البنات بالتأكيد لم أكن أرسم لنفسي المستقبل الذي أحياه الآن، لم أكن أعرف ما معنى القصيدة، وأنا أطاردها أو أكتبها كنت ألهو بجنون خاص ما بين مقابر أرقو وخرائبها وشوارعها ومزارع القصب التي تحاصر النيل بخضرة كثيفة. كنت مهموماً بالبحث عن الشيء الذي لا أراه، كانوا يصفوني بالماكر والثعلب وأحياناً المجرم.
قالوا لي أنك تكتب شعراً حصدت الجوائز من ليالي الإلقاء، كثيراً على كراريسي تعابير كبيرة تفوق حسن وجيد وجيد جداً وممتاز، كتبوا سيكون لك شأن كبير في دنيا الكتابة، قدموني في الأمسيات الأدبية، أولئك المدرسين الذين أخذوني لأول الطريق نصحوني بحفظ القصائد ونسيانها ثم محاولة الكتابة على إيقاعاتها كنت أفعل ذلك بفرح كبير ويومي حفظت وقتها المتنبئ ومحمد أحمد المحجوب والفيتوري وأحمد محمد صالح وآخرين، ونسيتهم. كتبت القصائد التي لم يكتبوها كنت أسابق ذاكرتي بفعل الكتابة عرفت أن لي أصدقاء يسكنون دواوين الشعر ويبنون عليها غرفاً من الأحلام الجميلة، كنت أباهي زملائي في المدرسة بما أكتب فيصفقون لي في إعجاب دافئ، ثم غادرت غربتي الأولى إلى غربتي الثانية أم درمان تلك المدينة التي راودت القروي على نفسه فأوشك أن يموت. كانت أم درمان هي المدينة التي أورثتني الانفصام ولم تنل حظها من عشق الطفولة.
الغرف الأخرى:
كانوا قد حولوني إلى مدرسة بيت المال الوسطى، كان علي أن ألج إلى داخل عالم آخر ومجتمع آخر وزمان آخر، أنا الذي لم أعرف البص ولا الشوارع المسفلتة ولا لمبة النايلون كان كل شيء أمامي يشكل إطاراً لصورة لم أرها من قبل. وكان عليَّ أن أفضح لنفسي كل الأشياء التي أراها أو أسمعها أو أقرأها، لذا كنت أفعل كل شيء بشراهة متعجلة أقرأ وأكتب ولا أنام إلا قليلاً، عرفت أبي وأمي وأصدقائي مرة أخرى، عرفت البنات الجميلات والشارع والضجيج، عرفت فلسطين جرح الطفولة، عرفت كيف مات القروي طالب الجامعة، كيف قتلوه (كانت أمي تبكيه وكأنه أنا)، وانفتح أمامي عالم آخر للكتابة لم يكن الهم خاصاً كما بدأ. صارت الصورة تنمو وصرت أبحث عن القصائد التي تشغلني والآخرين.. أصبح الخاص عاماً والبكاء والضحك والجراح لا تخصني وحدي.
تكونت للقصيدة غرف أخرى، عرفت جنة الأطفال بالتلفزيون صفية الأمين فيما أذكر كنت أشارك في مسابقاتها وأحصد جوائزها، نشرت بعضها بمجلة الإذاعة والتلفزيون ومجلة الشباب، بعثت لمحمد الفيتوري بإحدى قصائدي وكان له برنامج أدبي بالتلفزيون قرأها على الشاشة البيضاء فلم أنم يومها حتى الصباح.
كبرت العلاقات، الأصدقاء، الشعراء، المكتبات التي تفتح أبوابها، مكتبة أم درمان المركزية، ومكتبة أم درمان والخرطوم.
ثم دخلت إلى مدرسة محمد حسين الثانوية العليا، تلك المدرسة التي منحت القصائد عنوانها ورائحتها، اتسعت الرؤية وضاقت العبارة كما يقول النفري، خرجت بنات الشعر لتناكفني وتجعل مني زوجاً وابناً وأباً في آنٍ واحد، كان زهو السياسة والمخاطرة والاعتصام.
الشلة:
كنا في مطلع السبعينيات سامي يوسف، الطيب مهدي، ابن عمر محمد أحمد، طلال دفع الله، أحمد المصطفى الحاج، وآخرون شلة من أنصاف المجانين، يمارسون الكتابة والسير على الماء وإضرام النار على كل الاتجاهات، تكونت وقتها (النبض 71) ثم صدر البيان الأول أن تخاطر بكل شيء لتحيا التجربة كاملة ثم لتكتبها. كنا نبحث عن الصدق والمعنى كنا نحسب أن الأحرف العارية لا تحيا أبداً، وكنا نرى أن الموت هو بداية الحياة نصطاد الكتب أينما نجدها نطاردها من شارع إلى شارع ومن كاتب إلى صحيفة، قرأنا دارون وكاريل والمتنبئ وأبو نواس والماغوط وكولن ولسون وسارتر وعرفنا أشياء كثيرة عن ضروب الكتابة، أشكالها، كيف يمكن أن نستفيد من التراث.
عدنا إلى نبع الله القرآن لنغرف من حروف القلب زاداً لرحلة الكتابة. وأصدرت في ذلك الزمان تعاويذ على شرفات الليل وهي موقعة بطالب الثانوي العالي، احتفى بها الناس كثيراً، ما كانت المجموعة تضج بالهتاف والبطولات، كانت تحاول أن تحصي جراحات العالم أنجيلا ديفز، لوركا، فلسطين وأخريات.
أذكر أساتذتنا الذين حاصرونا بالحب، محي الدين فارس، محمد سعد دياب، عبد الله الشيخ البشير، إبراهيم إسحق، محمد محمد علي، كنا محظوظين أن نكون طلاباً لأساتذة تلك القامات صححوا لنا أيقظوا كل ما هو نائم حرضونا على الجمال حاولوا أن يجعلوا لكل العبث الذي كنا نحمله وجهاً يحمله وكشف لنا عورته.
الأحلام الكبيرة:
وكانت أيضاً المسابقات والسعي بين أشكال الكتابة المختلفة وزن القصيدة، موسيقى الكلمة الداخلية الصورة قصيدة الخليل التدوير الهايكو التفعيلة، كنا نحاول أن نجود ما نعلم ونسعى لاكتشاف القصائد التي لم تكتب بعد. كانت أحلامنا كبيرة التأمل والقراءة يأخذان كل أوقاتنا، نكتب ثم نحرق أوراقنا ولا نقيم جنازات لشيء ثم نعود لنكتب مرة أخرى، كنا ننافس قصائدنا وأحلامنا وأنفسنا. لذا ربما كان لجيل السبعينيات بصماته الجارحة على أشكال الكتابة، أذكر أن سامي يوسف طرق باب منزلنا في الثالثة صباحاً وهو يحمل في يديه قصة انتهى منها قبل وقت قليل اخترق سنار الأسرة المسالمة إلى الحارة الثانية، كان كل همه أن نقرأ تلك القصة معاً في ذلك الوقت، كنت أنا وقتها غارقاً في شطحات شبنهور وفلسفة الإرادة ولم يقو أبي على إظهار رفضه لتلك الزيارة الحادة قلت إن تجاربنا كانت تحاول أن تتجاوز الزمان والمكان معاً، كنا نسابق شيئاً ما سامي يوسف.
ضد الإحباط:
رحل عنا فجأة إلى العالم الآخر، كان رحيله مهراً لتجربة لم يكملها بعد عاش صراعاً داوياً في عشقه لفتاة.
رحيل سامي خلخل أشياء كثيرة جعلنا نفر إلى كل الاتجاهات بعضنا هرب حتى من مواصلة الكتابة واختار أن يحرق كل أوراقه، كان سامي قد تواعد معي قبل رحيله بأنه سيكشف لي سر العالم، كان بيننا نهر من الجنون لذا حاصرونا بأطباء النفس وشيوخ العشيرة، استأجر لي أبي شيخاً لمدة شهر كامل كان يسكن معنا بالمنزل وكان يرقبني كل يوم صباحاً ومساء. كان الداخل والخارج في عراك مستمر.. كانت عينا الشيخ ملمحاً لقصيدة أحلم بها، حقاً كنت أبحث عن يد أقبض بها خاصرة الزمان، كتبت وقتها مجموعتي الثانية (ضد الإحباط)، كانت لدي القدرة في أن تأخذ كل أحزاني صورها الجميلة الزاهية كنت مغرماً بتلك التجارب وكنت أحس أنني وحدي اخترقت أبوابها وخرجت من تلك الأبواب، كتبت (إحباط آخر يأتي في زمن الغد).
سنوات الجامعة:
ثم جاءت سنوات الجامعة، القاهرة بالخرطوم مساحة أخرى للأحلام والعراك الذي لا يتوقف، كلية الدراسات الفلسفية، الندوات وصخب السياسة واكتشاف الحبيبة وأحلام الفقراء التي تبني القصور والأنهار والمدن الأخرى على كراسة القصيدة، قلت لأخي طلال دفع الله احذروا الشعر فإنه لا يورث إلا الفقر.. والشعراء يحتملون الفقر حتى النزع الأخير لم نكن نعتني بجيوبنا ونحن نلهث خلف القصائد، كانت قلوبنا وجيوبنا تمتلئ بالأحزان اليومية الأوراق البيضاء والأقلام السوداء وكأن عهدنا أننا حين نفشل في تجربة ما علينا أن نشمر سواعدنا ونخرج إلى الشوارع بحثاً عن تجربة أخرى.
كثيراً ما كتبت كثيراً ما حاورت أعمالي وكثيراً ما أحرقتها، أنني أكثر الشعراء إهمالاً لما أكتب ولست من الذين يحفظون أعمالهم كل ذلك لأنني أحلم وباستمرار بقصيدة تأكل كل ما كتبت.
البحث عن التجريب:
ربما أصبح التجريب هو الهم الفني الذي أحاول ومن خلال الالتزام بشروط القصيدة أن أكتشف القصيدة الخفية التي لم أرها بعد، فالمفاهيم تتحول وتكبر لم يعد الشكل قاصراً على ما ورثناه فقط أحاول العثور على تكنيك متفرد أحاول العثور على حدث الإيقاع الخفي الذي يربط بين الحرف والآخر والكلمة ورفيقتها، ربما تحتاج الكتابة إلى بعض المغامرة التي تجعل من الصمت لغة تقرأ وتسمع في حالات كثيرة.
وأنا أستمع لتجربتي كيف بدأت على عروض الخليل ثم عدوت لشعر التفعيلة وكان التدوير والهابكو ومحاولات أخرى.. كنت فيها أحاول رسم حالة القصيدة خارج إطار الكلمة وكنت أكتفي بكتابة عنوانها فقط. تجارب كثيرة تخرج من مسيرتي الخاصة تنجح أو تفشل ولكنها تدفعني للوصول إلى الجب الذي سقطت روحي فيه.
ليس هو الشعر الفصيح فقط الذي كان يقود تجربتي كانت هناك الأغنية العامية وشعارات ومسلسلات التلفزيون وكتابة القصة القصيرة ومحاولات في الرواية عجزت أن أجلس نفسي لها وأنا أطارد باب الرزق لأجل أطفال لا يشبهوني إلا في الملامح.
لم تكن التجارب تحتويها القصيدة فقط، إنما كانت تحتوي نشري الخاص وأنا أنتقل من سكن لآخر ومن مهنة لأخرى صحفي، مدرس، تاجر والآن سائق ركشة أتداعى وأكتب وأحيا بقناعة أن الحبيب الواحد لا يسع روحاً واحدة. هكذا أنا أبحث عن جسد آخر بحجم الروح التي أحملها.
أكتب لكم عن تجربتي في كتابة القصيدة باختصار عنيد بصدق تام ربما ذات حلم قادم ألبس شارتي وأكتب القصيدة التي تجعلني أغلقها في الهواء الطلق ولا تفعل بي كل هذه المرارات التي عشتها وأعيشها الآن.